ولدت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين عن سابق إصرار وتصميم، ذلك أنّ فكرة الترحيل جاءت من أجل التخلص من "مشكلة السكان العرب" والاستيلاء على الأرض.
يُسمّي المشروع الصهيوني طرد الفلسطينيين أو ترحيلهم اسمًا ملطّفًا هو "الترانسفير" (النقل)، كي يُخفي وراء الصيغة التقنية المعنى الحقيقي الذي يتجسد بكونه جريمة ضد الإنسانية.
في حرب 1948، كانت سياسات الترحيل التي انتهجتها العصابات الصهيونية، التي صارت الجيش الإسرائيلي بعد تأسيسه في تلك السنة، مبنية على مفهوم ورؤية واضحة، ولم تكن هناك خطة مكتوبة في هذا الأمر، بسبب الخشية من إثارة الرأي العالمي.
يشير المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس إلى أن ديفيد بن غوريون، وسائر زعماء الصهيونية، لم يدلوا بأي تصريح مؤيد للترحيل منذ عام 1938، وشطبوا الكلمة من كل تصريحاتهم السابقة، ولم يعودوا للتطرق إليها إلا في اجتماعات الغرف المغلقة (1).
لكن عدم وجود خطة مكتوبة لا يعني انعدام الفكرة على الإطلاق، فهي فكرة ذات جذور راسخة في فكرة الحركة الصهيونية، القائمة أساسًا على الترحيل: ترحيل اليهود إلى فلسطين، وترحيل العرب منها.
وتعود جذور هذه الفكرة إلى مؤسس الحركة الصهيونية، تيودور هرتسل، الذي كتب في يومياته: "لدى امتلاك البلاد فإننا سنجلب فائدة مادية فورية على الدولة التي ستقبلنا. الأراضي الخاصة من مناطق البلاد التي سيجري تسليمها لنا ينبغي علينا أن نستلها رويدًا رويدًا من أيدي أصحابها. والسكان الفقراء سنسعى لنقلهم خلف الحدود دون ضجيج، بواسطة منحهم عملًا في البلدان التي سينتقلون إليها. لكن في بلادنا سنمنع عنهم إمكانية أي شغل. نقل الأراضي إلى سيطرتنا وإخراج الفقراء من دولتنا يجب أن يتما بنعومة وحذر" (2).
وعبّر بن غوريون مرارًا عن رغبته بالتوسع في الأرض على حساب السكان الفلسطينيين، لكن حين تنكرت الحكومة البريطانية لمقترحات "لجنل بيل"، التي أوصت بتقسيم الأرض، راح بن غوريون يقصر الحديث عن الترحيل في الاجتماعات الضيقة فقط، وحذف تلك الكلمة من الأرشيف الصهيوني، كما سبقت الإشارة، ومن أرشيفه الخاص، إذ حذف المقاطع التي تناول فيها الترحيل من رسائله حين جمعت في كتاب "إلى باولا والأولاد" (3).
مع العدوان الوحشي على غزة، تعود المفاهيم والخطط القديمة الجديدة، ليس للحضور فقط، بل لتدخل حيز التنفيذ، خصوصًا مع توفر الغطاء والدعم الدوليين للإبادة والتطهير العرقي
وإلى جانب بن غوريون، تبنى كبار المسؤولين الصهاينة هذا المفهوم، وفي مقدمتهم حاييم وايزمن وموشيه شاريت، وهؤلاء الثلاثة هم: أول رئيس حكومة، وأول رئيس دولة، وأول وزير خارجية.
علّق بن غوريون أهمية كبيرة على الترحيل، وكتب في يومياته عام 1937: "إن ترحيل العرب قسرًا من أودية الدولة اليهودية المقترحة قد يمنحنا شيئًا لم يكن لدينا قط: جليلًا خاليًا من العرب" (4).
حاييم وايزمن تحدّث عن الفكرة بحماسة، وعرض خطة للترحيل عام 1937 تقوم على منح قرض قدره مليون ليرة فلسطينية لكل فلاح يتوطن في الأردن، وقد تم تبني الخطة من قبل "لجنة بيل"، التي جاءت للتحقيق في الواقع الفلسطيني بعد ثورة 1936، وحملت اسم رئيسها إيرل بيل، وكانت الخلاصة التي وصلت إليها هي ضرورة تقسيم البلاد بين اليهود والعرب، برؤية تقارب رؤية وايزمن، بما في ذلك التوطين في الأردن.
وعلى الرغم من أنّ تصاعد وتيرة الثورة الفلسطينية نسف كل توصيات هذه اللجنة، وأرغم الحكومة البريطانية على رفض الأفكار التي طرحتها، ممّا أدى إلى صمت اليهود عن الموضوع، وحذفه من السجلات والأراشيف، إلا أنّ أفكار حاييم وايزمن نفسها في هذا المجال صارت أساسًا لكل النقاش الصهيوني حول الترحيل أو التهجير أو الطرد، وهي تقوم على ما يأتي:
- لا تتنافى الدعوات إلى الطرد مع الأخلاق.
- ترحيل العرب إلى الأردن والعراق ليس مأساة بل هو مجرد انتقال من مقاطعة عربية الى مقاطعة عربية أخرى.
- ليس اليهود أصحاب سابقة في هذا، إذ إن هناك نقل سكان جرى بين اليونان وتركيا بعد الحرب العالمية الأولى.
وكذلك كان الأمر مع أرتور روبين الذي دعا لتجهيز الجزء العربي من الدولة المزمعة لاستقبال الفلاحين من الدولة اليهودية طوعًا، وإن لم توجد طريقة أفضل سيتم ذلك عن طريق تجريدهم من الملكية. قال روبين: "إذا لم نفعل ذلك فسنضطر لأن نمنح الأقلية العربية في دولتنا حقوقًا متساوية" (5).
كان روبين مسؤول الاستيطان حتى وفاته عام 1943، وقد قدّم بدوره مشروعًا لشراء أراض في مناطق حمص وحلب في سوريا، ومن ثم بيعها للفلسطينيين الذين تضرروا من شراء اليهود للأراضي بشروط ميسرة (6).
كان واضحًا في فترة ما قبل حرب عام 1948 أن تجريد الفلاحين من أرضهم أمر واقع ولا مفر منه، وقد ظهرت لخدمة هذا الهدف خطط عديدة، منها خطة إدوارد نورمان، وهو رجل أعمال يهودي أمريكي، نشط في الثلاثينات من القرن الفائت، واقترح أن يتم ترحيل الفلسطينيين إلى العراق، نظرًا لاتساع أراضيه وخصوبتها، لكن الحرب العالمية عام 1939 جعلت هذه الحركة تخفت.
ومع تصاعد الحرب واضطهاد النازيين لليهود، راحت الصهيونية تبحث عن أنسب أرض للفلسطينيين، وهنا تولى يوسف فايس (مدير دائرة الأراضي في الصندوق القومي اليهودي) مهمة العثور على المكان المناسب، وكان أن وجد ذلك المكان في منطقة الفرات بالجزيرة السورية، وكتب في يومياته: "الخلاص لا يتحقق إلا بترحيل السكان، فالعرب كثيرون جدًا، وجذورهم عميقة في هذا البلد، والوسيلة الوحيدة هي قطعهم واستئصالهم من جذورهم" (7).
التقت كل التيارات الصهيونية حول ترحيل الفلسطينيين، لكنهم اختلفوا حول الآليات فقط، إذ كان النقاش يدور بين طرد قسري يؤيده اليمين، وطرد طوعي يؤيده اليسار، انطلاقًا من الأرض حقٌ وراثي لليهود والعرب غرباء فيها، وعليهم الرحيل عنها والإقرار بيهوديتها.
كانت حرب 1948، وكما هو معروف، بمثابة تطبيق عملي للترحيل، من خلال التخلص من ثلاثة أرباع سكان فلسطين، لكن انتهاء الحرب وقيام دولة الاحتلال لم يكونا نهاية مشروع الترحيل، خصوصًا بعد الاستيلاء على كامل الأرض الفلسطينية بعد حرب 1967، والاصطدام مرة أخرى بالمشكلة السكانية، لكنهم في هذه المرحلة راحوا يعملون بسرية وحذر، وقد عرفت هذه المرحلة العديد من المشاريع السرية ذات الطابع الاستخباراتي، مثل خطة التهجير للباراغواي.
بينت استطلاعات رأي في ثمانيات القرن الفائت أن نصف اليهود الإسرائيليين يؤيدون طرد الفلسطينيين، ليس طرد سكان الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، بل طرد عرب الداخل أيضًا (8).
مع بداية تسعينات القرن الفائت، استمر النقاش الإسرائيلي حول الطرد والتهجير، وكان يتمحور حول الأوضاع التي يمكن أن يحدث فيها، والكيفية التي سيكون عليها. وكانت الإجابات محصورة في ثلاث نقاط:
- يمكن حدوث الطرد خلال حرب مع بلد عربي (أو أكثر)، ووقتها يمكن اعتبار الفلسطينيين يقومون بدور نشيط معاد.
- في حالة اللاحرب، يمكن تنفيذ الطرد كانتقام من تصاعد "الإرهاب"، أي المقاومة الفلسطينية، فعبر السياسات الاستيطانية يضطر الفلسطينيون للعنف، وهذا يُمكّن من إجلاء سكاني جزئي.
- العمل على إنشاء أوضاع غيتو، من حيث تعطيل الاقتصاد، وسوء الخدمات، والملاحقة الأمنية، لإرغام الفلسطينيين على الرحيل (9).
صحيح أن هذه الأوضاع المهيئة للترحيل لا تزال قائمة، إلا أنها منذ مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية تشهد تصاعدًا كبيرًا، تضمن تحولات نوعية تقوم على وضع الفلسطينيين ضمن ظروف قاتمة من الفصل العنصري والحصار والاعتقال والإهانة، مع استمرار الاستيطان.
وهذه العوامل كلها تتضافر فيما بينها كي تخلق الظروف المواتية للتهجير طوعًا وقسرًا، في أشكال لم تعد سرية كما في مراحل سابقة.
واليوم، مع العدوان الوحشي على غزة، تعود المفاهيم والخطط القديمة الجديدة، ليس للحضور فقط، بل لتدخل حيز التنفيذ، خصوصًا مع توفر الغطاء والدعم الدوليين للإبادة والتطهير العرقي والطرد والاضطهاد.
هوامش
- ملاحظات حول التأريخ الصهيوني وفكرة الترانسفير في سنوات 1937 – 1944، بيني موريس، مجلة الكرمل، العدد 67 2001، 193.
- المصدر نفسه، ص 192.
- المصدر نفسه، ص 194.
- التصور الصهيوني لـ "الترحيل": نظرة تاريخية عامة، نور مصالحة، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 7 1991، ص 14.
- ملاحظات حول التأريخ الصهيوني، ص 196.
- عصام سخنيني، الجريمة المقدسة: الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2012، ص 75.
- المصدر نفسه، ص 87.
- نور مصالحة، أرض أكثر وعرب أقل: سياسة الترانسفير الاسرائيلية في التطبيق 1949 – 1996، مؤسسة الدارسات الفلسطينية 2002، ص 233.
- المصدر نفسه ص 235.