هل انتبهت إلى أنّ الدول الأكثر فقرًا تعاني من بطش الشرطة أكثر مما هو الحال عليه في الدول الأغنى، أو ما تسمى بدول العالم الثالث؟ لدى مجلة الإيكونوميست تحليلًا خاصًا بهذه الظاهرة، ننقله لكم مترجمًا بتصرف في السطور التالية.
تقتل الشرطة في الولايات المتحدة ما يقرب من ألف شخص في العام الواحد، وليس ثمة دولة أخرى مما تسمى بدول العالم الأول تقترب من هذا الرقم، فدولة مثل فنلندا، أطلقت شرطتها طوال عام كامل، هو عام 2013، ست رصاصات فقط، أي أقل من نصف العدد الذي أطلقه شرطي من شيكاغو على المراهق ذي الأصول الأفريقية لاكوان ماكدونالد في عام 2014.
يمكن القول بصفة عامة، إنه كلما كانت البلاد أكثر فقرًا وفوضى، كانت الشرطة أكثر دموية وفتكًا
وعلى الرغم من ذلك، بالمقارنة مع الشرطة في بعض البلدان الأكثر فقرًا، يبدو أن رجال الشرطة في الولايات المتحدة مثاليون تقريبًا! إذ إن الشرطة في السلفادور مثلًا أشد فتكًا بأكثر من 22 مرة. وفي مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، التي يبلغ عدد سكانها 17 مليون نسمة، قتل رجال الشرطة فيها في عام 2017، أشخاصًا أكثر مما قتلته الشرطة الأمريكية كلها في نفس العام.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الشرطة في مصر"..من أمن الرعية إلى أمن الحاكم
وفي بلدان مثل كينيا ونيجيريا والفلبين، من المستحيل القول حتى ولو بالتقريب عدد الأشخاص الذين تقتلهم الشرطة، لكن العدد كبير للغاية. يقول جوستوس إيجوما، ناشط في مجال حقوق الإنسان في ولاية أنمبرة النيجيرية: "إن وحشية الشرطة شائعة جدًا".
ما السبب وراء إقدام بعض رجال الشرطة على القتل؟ يعزى جزء من هذا لخشيتهم على حياتهم الخاصة أو حياة المارة. ويُمكن القول بصفة عامة إنه كلما كانت البلاد أكثر فقرًا وفوضى، كانت الشرطة أكثر دمويةً، إذ يطلق رجال الشرطة في الولايات المتحدة النار على الأشخاص أكثر من رجال الشرطة في البلدان الغنية الأخرى، ويعود ذلك إلى أن المزيد من الأشخاص يُطلقون النار عليهم. ففي حين أنهم أشد فتكًا بمقدار 36 مرة من رجال الشرطة الألمانية، ولكنهم أكثر عرضة بمقدار 35 مرة للقتل أثناء العمل.
يتمثل الاختلاف الآخر الكبير في الدوافع. ففي أمريكا، كما هو الحال في أوروبا، يُعاقب الشرطي الذي يقتل بطريقة غير قانونية. (تم إيقاف الضابط الذي أطلق النار على ماكدونالد ووجهت إليه تهمة القتل العمد)، وعلى النقيض من ذلك، تشجع السلطات في العديد من البلدان النامية عمليات الإعدام خارج نطاق القانون، إما بهدف التخلص من المعارضين أو لقمع الجريمة.
في الفلبين مثلًا، يحث الرئيس رودريغو دوتيرتي الشرطة علنًا على قتل تجار المخدرات المشتبه بهم، بل وحتى متعاطي المخدرات، للوفاء بوعود حملته الانتخابية وإلقاء جثثهم في خليج مانيلا "وتغذية الأسماك بهم" على حد تعبيره. ومنذ أن أصبح رئيسًا في أيار/مايو عام 2016، لقي أكثر من 12 ألف شخص مصرعهم في عمليات قتل خارج نطاق القانون، وفقًا لجماعات حقوق الإنسان.
وعلى الرغم من أن الشرطة تفيد بأن عدد القتلى أقل من ذلك (3850 شخصًا) خلال الفترة ما بين تموز/يوليو 2016 وأيلول/سبتمبر 2017، إلا أنّ الرقم لا يزال كبيرًا، ويُضاف إليه 2290 حالة قتل تقول الشرطة إنها تحقق فيها!
تقول إيميلدا هيدالغو، التي تعيش في إحدى الأحياء الفقيرة في مدينة كويزون في مانيلا عاصمة الفلبين؛ إن الشرطة أطلقت النار على شقيقها العام الماضي، ربما لأنهم سمعوا أنه يتعاطى مخدر الشبو، إذ إنه أحيانًا يقوم رجال الشرطة المحبون لإطلاق النيران، بإصلاق الرصاص على المارة!
أضافت هيدالغو: "نحن خائفون. ماذا لو جاء أحد المتعاطين إلى متجرنا المحلي ومن ثم تنشب عملية مكافحة مخدرات هنا؟".
وتقول إليزابيث ماغو، وهي بائعة طعام في مدينة كويزون، إن ابنها "اعتاد أن يكون في المكان غير المناسب وفي الوقت غير المناسب". وفي إحدى الأمسيات من العام الماضي، طلب مبلغ 10 بيزو (حوالي 0.20 دولار) لدفع ثمن الاشتراك في دورة ألعاب الفيديو، وتوجه إلى متجر الحواسيب المحلي. وبينما كان هناك، أُطلق عليه الرصاص.
واشتبهت أمه في ضلوع الشرطة وتورطها في الأمر، ولكن لا يُمكن التأكد من ذلك، إذ إن حدوث مثل هذا الارتباك أمر طبيعي. يقول أحد المتطوعين في الكنيسة الذي يساعد أولئك الذين فقدوا ذويهم بسبب العنف: "أول شيء تفعله الشرطة أثناء العمليات، هو تدمير كاميرات المراقبة والأضواء".
وتُصر الحكومة على أن قتل المجرمين يساعد في قمع الجريمة. إلا أنه من المستحيل التأكد من ذلك. ولكن الأمر المؤكد هو أن عديدًا من عمليات القتل تكون قتلًا مُتعمدًا، ببساطة ووضوح، وأن وجود ترخيص بالقتل يجعل من الأسهل على الشرطة الفاسدة ترهيب المدنيين. عن ذلك يقول أحد المسؤولين المحليين: "أصبح الابتزاز الآن أكثر تفشيًا على نحو ما، لأن الشرطة يُمكنها اختيار من تقتل ومن تودع السجن".
ومع ذلك، ما زال أكثر من ثلاثة أرباع الفلبينيين يوافقون على نهج الحكومة، حتى الذين تضرروا من تلك الحملة الوحشية يؤيدونها أحيانًا، أو ربما هو الخوف، فمثلًا كل من هيدالغو وماغو يقولان إنهما يريدان استمرار الحكومة في هذا النهج!
في تايلاند، فشلت فشلًا ذريعًا الحرب المماثلة على المخدرات هناك، والتي بدأت في عام 2003، إذ خلُص تقرير صدر بعد أربع سنوات، أنه في الأشهر الأولى من عُمر الحملة، كان نصف عدد حالات القتل خارج نطاق القانون البالغ عددها 2819 حالة، شملت ضحايا لا علاقة لهم بالمخدرات أصلًا. كما يتذمر القرويون في بعض الأحيان من أن معدلات الإدمان مازالت سيئة مثلها مثل أي وقت مضى. ومع ذلك، يتوق الكثيرون للعودة إلى العنف، فيتساءل أحد مزارعي الأرز "إذا قتلت كلبًا، فهل عليك أن تعتذر لعائلته؟ لا. وهو نفس الأمر مع تجار المخدرات"!
في عام 2015، قال نائب رئيس السلفادور لرجال الشرطة، إنهم يستطيعون إطلاق النار على أعضاء العصابات "دون أي خوف من مواجهة العواقب". توضح أجنيس كالامار، المقررة الخاصة في الأمم المتحدة والمعنية بالإعدام خارج نطاق القانون، أن هذا "الإفلات الضمني من العقاب يحفز الشرطة على الإفراط في الحماسة". وبعد أن أعلنت الحكومة سياسة "القبضة الحديدية" تضاعف عدد أفراد العصابات المزعومين الذين أطلقت عليهم الشرطة والجنود النار بمقدار 15 ضعفًا، من 39 عام 2013 إلى 603 عام 2016!
وخلال نفس الفترة، تضاعف معدل القتل المُتعمد. من المفترض أن تطلق الشرطة النار للتعجيز، وليس بقصد الإيذاء، لكن النسبة بين المشتبه فيهم الذين قُتلوا، إلى الجرحى، قفزت من 3.1% في عام 2015 إلى 6.3% في الأشهر الستة الأولى من عام 2017. وارتفعت نسبة القتلى المشتبه بهم إلى القتلى من رجال الشرطة إلى حوالي ثماني مرات، من 15 إلى واحد في عام 2014 إلى 113 إلى واحد في حزيران/ يونيو عام 2017.
في بعض الدول يُبرر عنف الشرطة المفرط بأنه الطريقة الوحيدة للتعامل مع العصابات، وفي دول أُخرى يبرر بذريعة "مكافحة الإرهاب"!
وفي العام الماضي، اعتُقل أكثر من 600 ضابط سلفادوري بتهمة انتمائهم إلى كتائب الموت، أو يشاركون في مواجهات بالأسلحة أو يرتكبون جرائم أخرى. وبالكاد تعرض أي منهم للمحاكمة أو حتى العزل من وظيفته. وعند مرحلة ما، تمكن الصحفيون من الوصول إلى مجموعة محادثة خاصة على تطبيق "واتس آب"، حيث يتشارك الضباط من وحدة النخبة الخاصة مقاطع فيديو للمشتبه بهم وهم يتعرضون للتعذيب، واحتفلوا بـ"القضاء" على من أسموهم بـ"فئران" العصابات، وتبادلوا النصائح حول كيفية تلفيق الأدلة. وعلى الرغم من إلقاء القبض على الضباط في تلك المحادثة، فقد أفرج عنهم بعد ذلك بثلاثة أيام!
اقرأ/ي أيضًا: من أجل ضباط شرطة أكثر إنسانية
تبادل لإطلاق النار في اتجاه واحد!
يقول المدافعون عن سياسة "القبضة الحديدية" في أمريكا اللاتينية، إنها الطريقة الوحيدة للتعامل مع عصابات المخدرات. في البلدان الأخرى، يُبرر العنف بذريعة "مكافحة الإرهاب". لنضع في عين الاعتبار قضية نقیب اللہ محسود، وهو شاب يبلغ من العمر 27 عامًا، كان يطمح بأن يصبح عارضًا للأزياء في باكستان.
قبل وفاته، نشر مقطع فيديو عبر الإنترنت يرقص فيه هو وصديق له في غابة، بينما يبتسم ويصفق ويترنح وتتمايل خصلات شعره الطويل مع النسيم. إنه لا يبدو عضوًا في حركة طالبان بأي شكل من الأشكال، ومع ذلك في 13 كانون الثاني/ يناير، قَتلَ فريقٌ شرطي الشاب محسود فيما وصفوه بأنه تبادل لإطلاق النار مع أربعة من "الإرهابيين"!
كما أن "القتل أثناء المجابهات" شائع في كل من باكستان والهند. بين عامي 1997 و2016، سُجل ما يقرب من 8800 حالة في باكستان. يشير هذا المصطلح إلى أن المشتبه بهم يلقون مصرعهم أثناء تبادل لإطلاق النار. ومن الجدير بالذكر أن رجال الشرطة نادرًا ما يُقتلوا خلال هذه المعارك. وعلى الرغم من أن الدماء غطت الأرضية في المنزل الذي قُتل فيه محسود، لكن ثقوب الرصاص لا تغطي سوى جدار واحد، فيما يبدو أن تبادل لإطلاق النار في اتجاه واحد!
وقد اختفى محسود قبل عشرة أيام من وفاته، وقال بعض الناس لوسائل الإعلام المحلية إن الشرطة ألقت القبض عليه في محاولة لابتزازه. ولم يعثر التحقيق الذي أجرته الشرطة على أية صلة بينه وبين حركة طالبان. وعلى ما يبدو أن مسرح الجريمة، قد تم "إعداده".
وتفيد التقارير أن الوحدة التي قتلت محسود نفذت 262 عملية قتل أثناء ما قيل إنها مواجهات إطلاق النار منذ عام 2009. وأصبح قائد هذه الفرقة وهو أنور أحمد خان، من المشاهير. ويقول أفضال نديم دوجار، من قناة جيو نيوز الإخبارية المحلية، إن الصحفيين الذين يحملون آلات التصوير يصلون بشكل روتيني إلى موقع المواجهات بالأسلحة، قبل أن تبدأ بدقائق! ويقول المحامي والناشط، جبران ناصر، ساخرًا: "أصبح الأمر وكأن أنور نجم من نجوم السينما"، مضيفًا "تنفجر القنابل في كل مكان، لكنه يخرج بدون خدش في كل مرة".
على الرغم من أن حياة أنور المهنية قد انتهت الآن، فقد اختبأ لتفادي إلقاء القبض عليه بموجب مذكرة توقيف صادرة في حقه بتهمة القتل، فإن محاولات القضاء على عمليات القتل خارج نطاق القانون تتصارع ضد مجموعة من الدوافع التي تدعمها. إذ تغرق المحاكم الباكستانية في ظل تراكم القضايا البالغ عددها 1.9 مليون قضية. ويخشى القضاة التورط في المحاكمات المتعلقة بقضايا الإرهاب، خشيةً أن يقتلهم الجهاديون. ونادرًا ما يتقدم الشهود للإدلاء بشهادتهم.
يفضل رجال الشرطة الطرق المختصرة للترقي، إذ إن الذين يشارك منهم بكثر فيما تسمى بـ"المواجهات المسلحة" سواءً كانت حقيقية أم غير ذلك، يحصدون الترقي والتقدم المهني. يتنهد أحد كبار الضباط: "عملت بجد طوال حياتي، لكنني لم أكن جزءًا من أي مواجهات مُسلحة، لذلك لم أتمكن من الحصول على ترقية".
إحدى الأفكار الشائعة عالميًا للحد من عمليات القتل هي أن يرتدي رجال الشرطة الكاميرات، ومع ذلك، أظهرت دراسة أجريت في واشنطن، ارتدى فيها نصف رجال الشرطة تقريبًا كاميرات جسدية ولم يرتد النصف الآخر، عدم وجود فرق في استخدام القوة بين المجموعتين. وهذا قد لا يعني أن الكاميرات الجسدية غير مجدية، ولكن قد يعني أن رجال الشرطة الأمريكية يتبعون القواعد عادةً، وبالتالي لم يكن هناك حاجة إلى تغيير سلوكهم عند تصويرهم. قد تكون قوات الشرطة الأخرى مختلفة، وقد تحث الكاميرات الجسدية المدنيين على التصرف بشكلٍ أفضل أيضًا.
لا يمُكن للتكنولوجيا أن تكبح الشرطة، إلا إذا أرادت السلطات كبح جماحها، إذ ينبغي على شخصٍ ما مشاهدة لقطات الكاميرا الجسدية والمعاقبة على سوء السلوك. يستغرق بناء ثقافة المُساءلة وقتًا وإرادة سياسية، ولكنه ليس مستحيلًا.
في أوائل عام 2000، طهرت كولومبيا 12 ألف ضابط فاسد، وعلّمت الضباط الجدد أن يكونوا مُحققين أفضل. وفي غواتيمالا، حصل فريق من المُدعين المستقلين المدعومين من قِبل الأمم المتحدة على إدانات في عام 2013 ضد أربعة رجال شرطة مسؤولين عن القتل المنظم للسجناء. وقد أدت مثل هذه القضايا البارزة إلى التقليل من حوادث القتل التي تسببت فيها الشرطة وجرائم القتل بشكلٍ عام.
على المدى القصير، تحتاج الشرطة إلى تدريب أفضل على استخدام وسائل غير قاتلة لتعجيز المشتبه بهم، مثل مسدسات الصعق الكهربائي. يقول فرانكلين زيمرنج من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، إنه من الممكن إنقاذ العديد من أرواح الأمريكيين، إذا أعادت الشرطة تقييم التكتيكات مثل إفراغ خزينة سلاح يحتوي على 15 عيار ناري على شخص مدني يحمل سكين، ويقف على بعد 20 قدمًا "لمجرد التأكد"!
الدول النامية بحاجة إلى قادة ورؤساء يعتقدون أن حياة المدنيين ذات أهمية، وأن العقوبات تقرر عن طريق المحاكم وليس من خلال الشرطة
أما على المدى الطويل، يحتاج رجال الشرطة في العديد من الدول الأكثر فقرًا إلى عقوبات أكثر صرامة عندما يسيئون استخدام سلطاتهم، ونظام قانوني فعال للعمل من خلاله، ولذلك فهم لا يواجهون خيارًا بين قتل المشتبه به أو رؤيته ينجو من السجن عن طريق الرشوة. والأهم من ذلك كله، تحتاج هذه البلدان إلى قادة يعتقدون أن حياة المدنيين ذات أهمية، وأن العقوبات تقرر عن طريق المحاكم، وليس من خلال الشرطة.
اقرأ/ي أيضًا: