يلعب المجتمع المدني في منطقتنا دوراً مهماً في دعم المجتمعات وتقديم مجموعة من الخدمات الأساسية بما في ذلك الخدمات الاجتماعية والحماية والتعليم والصحة والمساعدة القانونية وغيرها في ظل تخلٍّ تدريجي وممنهج لمؤسسات السلطة عن مسؤولياتها.
وبالإضافة لهذا الدور الخيري والخدمي يساهم المجتمع المدني في توفير مساحات للناس للتنظيم والعمل الجماعي والتعبير عن آرائهم واهتماماتهم، كما تساهم هياكله المختلفة من مؤسسات ومجموعات وأفراد في الرقابة على سياسات وأعمال الحكومة والقطاع الخاص، وتعزز آليات الشفافية والمساءلة بشكل يسهم في إيجاد مجتمع أكثر إنصافًا وعدالة وتشاركية يمكن أن يكون فيه لكل مواطن صوت ومساهمة.
على الرغم من الأدوار الحيوية التي يلعبها المجتمع المدني وسده لتقصير الحكومات وعجزها في كثير من المجالات، إلا أن الانظمة السلطوية احترفت شيطنة هذا المكون الحيوي ونشطاءه
وعلى الرغم من الأدوار الحيوية التي يلعبها المجتمع المدني وسده لتقصير الحكومات وعجزها في كثير من المجالات، إلا أن الأنظمة السلطوية احترفت شيطنة هذا المكون الحيويَّ ونشطاءه واستمرت في تشويه صورته لأسباب متعددة، أهمها قد يكون أن ما اصطلح على تسميته "المجتمع المدني" هو الجهة الوحيدة المتبقية التي قد تمثل تحديًا لاحتكار هذه الأنظمة للسلطة وقدرتها على الاستمرار في السيطرة في غياب الحياة السياسية والحزبية الحقيقية والفاعلة، الحياة الحزبية التي عملت نفس هذه الأنظمة لعقود على قتلها وإعادة تشكيلها على نحوٍ صوري مشوه وعاقر.
هذه الحال دفعت المجتمع المدني بمنظماته ونشطائه إلى تجاوز حدود العمل الخيري والخدمي والولوج إلى فضاءات أوسع يسعون فيها إلى تعزيز قيم الحقوق والديمقراطية والحريات بوسائل وهيكليات متعددة تشمل مجموعات المناصرة وحشد التأييد والمدافعين عن حقوق الإنسان والنقابات العمالية وخصوصاً المستقلة وحتى النشطاء الافراد، بحيث ازداد تركيز الجهود على تعزيز القيم الديمقراطية وحرية التعبير والتجمع وتشكيل الجمعيات، والتي غالبًا ما تتعارض مع رغبات الأنظمة السلطوية. فالمجتمع المدني من منظمات ومجموعات غير رسمية ونشطاء لديهم القدرة على تشكيل وامتلاك أدوات مساءلة الأنظمة ومحاسبة وحوكمة سياساتها، ويستطيعون في بعض الحالات تعبئة الرأي العام ضد سياساتها غير العادلة، مما قد يساهم في تقويض شرعية الأنظمة السلطوية المصطنعة. ولذلك فإن الحل عند السلطويين يكمن في شيطنة المجتمع المدني وتشويه سمعته وتقويض مصداقية منظماته والعاملين فيها وثني المواطنين عن التعامل معها، لدرجة قد تصل إلى التحريض على مهاجمتها وإلحاق الأذى بها، في سبيل الحد من قدرتها على التأثير على المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
تلجأ الأنظمة السلطوية إلى شيطنة المجتمع المدني وتشويه سمعته وتقويض مصداقية منظماته والعاملين فيها وثني المواطنين عن التعامل معها
وفي سبيل تحقيق غاياتها تستخدم هذه الأنظمة إستراتيجيات وتكتيكات مختلفة في عملية الشيطنة الممنهجة، بما في ذلك الدعاية المضللة من خلال الترويج لمعلومات كاذبة أو غير دقيقة عن منظمات المجتمع المدني ونشطائه، ونشر مفاهيم مغلوطة عنها تصل لدرجة التخوين والتكفير، مما يساهم في خلق مناخ من عدم الثقة وتعزيز الخوف من المجتمع المدني بشكل عام، وبالتالي يجعل من الصعب على منظمات وأفراد هذ المجتمع العمل بفعالية ويجرهم إلى صراعات جانبية في محاولة مواجهة محاولات التضليل والتشويه المستمرة.
كما قد تصعد الأنظمة السلطوية أحياناً وتمعن في استخدام أساليب المضايقة والترهيب بما في ذلك التجسس على الهواتف الخلوية واتصالات النشطاء وقيادات المجتمع المدني، وقد تمتد المضايقات لدرجة الاعتقال والاحتجاز خارج نطاق القانون، وفي أحيانٍ أخرى باستخدام قوانين فضفاضة يساء استخدامها لملاحقة النشطاء تحت ذرائع واهية وباسم القانون. وهكذا بات من السائد اليوم تقييد الأنظمة السلطوية لحرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع من خلال قوننة الممارسات والسياسات التقيدية وفرض تشريعات تعقد إجراءات تكوين الجمعيات، والحصول على التمويل، وحرية التجمع في الفضاء العام، ناهيك عن الحق في التظاهر والاعتصام والإضراب، مما يزيد من الصعوبات أمام المجتمع المدني عند محاولة العمل والتواصل مع الجمهور والاحتجاج ومحاولة معارضة سياسات الأنظمة غير العادلة.
ولا تتورع بعض الأنظمة عن استخدام اساليب أشد قسوة تصل لدرجة استخدام العنف الجسدي والتعذيب. وبات من المعتاد استخدام الأنظمة السلطوية لوسائل أخرى للتضييق على النشطاء من خلال الحد من حريتهم في التنقل والسفر وحتى التضييق عليهم في مجال العمل والتضييق عليهم في رزقهم لدرجة تصل لترهيب أصحاب العمل أنفسهم وإجبارهم على طرد النشطاء من وظائفهم.
وللأسف، في لعبة القمع ونزع المصداقية هذه تتمتع الأنظمة السلطوية بالعديد من المزايا التي تسهل عليها عملية تشكيل الرأي العام، فهي "الحاكم بأمر الله" المسيطر على وسائل الإعلام المحلية والتشريعات الناظمة لها، مما يسمح لها بنشر وترسيخ نسختها من الأفكار وقولبة الأحداث والتركيز على بث نسخ محددة على مقاس السلطة من الأخبار والتحليلات، بينما تقيد في نفس الوقت قدرة الناس على الوصول إلى وجهات نظر بديلة. ناهيك عن سيطرتها على النظام التعليمي والمناهج التعليمية مما يمنحها قدرة على تشكيل توجهات الأجيال الناشئة لدرجة قد تصل لغسل الأدمغة.
ومع أن البعض قد يفترض أن هذه الأدوات قد باتت أقل فعالية في ظل الانفتاح الدولي والعولمة وتوفير الإنترنت لإمكانية الوصول لمصادر أخرى للتعلم والأخبار، إلا أن ذلك لم يمنع الأنظمة السلطوية من الاستمرار في استخدام الدعاية للتلاعب بالرأي العام ونشر معلومات مضللة وروايات كاذبة للتأثير على الناس وتأليبهم ضد المجتمع المدني. وأحياناً لا تعمد الأنظمة لفعل ذلك بشكل مباشر بل تستغل بعض أذرعها- والتي قد تبدو للوهلة الأولى معارضة- ولكنها في الحقيقة مجرد أدوات على الرف جاهزة لاستخدام الأنظمة السلطوية عند الحاجة. وحين لا تفلح الدعاية تتنقل الأنظمة للقمع لإسكات الأصوات المعارضة وترهيب الأفراد الذين قد يتحدون رواية النظام او سياسته.
لقد طورت الأنظمة السلطوية مجموعة من التهم المعلبة وأهمها اتهام المجتمع المدني بالارتهان للخارج والارتباط بعناصر أجنبية أو التبعية لقوى خارجية، وتتوج هذه النوعية من الاتهامات بالتخوين واتهامات العمالة، وأحياناً تلجأ الانظمة إلى اتهامات الانحلال الفكري والأخلاقي ومحاولة فرض قيم أجنبية منحطة على المجتمع تعارض القيم الدينية والاجتماعية المحلية، وغالباً ما تتوج مثل هذه الاتهامات بالتكفير. ويسهل مهمة هذه الأنظمة أن منظمات المجتمع المدني تطالب بتطبيق المعايير الدولية في الحقوق التي قدر يراها البعض بسبب سوء الفهم ونقص المعرفة فرضاً لأجندات وقيم أجنبية. أضف إلى ذلك أن أحد أهم مصادر تمويل المجتمع المدني قد يكون التمويل الدولي (الأجنبي). ومن المفارقة أن الأنظمة ومن يصدقون روايتها يتناسون أن هذه الأنظمة ذاتها تحصل على تمويل من ذات الجهات، والفارق يكمن أن حجم تمويل الأنظمة أكبر بكثير، وهو في الغالب بالكاد يخضع لأي قدر من المساءلة والحوكمةـ بعكس الحاصل في أنماط تمويل المجتمع المدني، كما أن تمويل الأنظمة غالباً ما يكون مرتبط باشتراطات قد تكون قاسية، بعضها يمسّ بالسيادة واستقلالية القرار.
هل المجتمع المدني ملائكي بلا مشاكل؟ بالتأكيد لا، فمثله مثل أي قطاع فيه الصالح والطالح، وبالتأكيد هنالك انتهازيون ومتسلقون وفاسدون في هذا المجال مثل أي مجال آخر، وبالتالي يجب تعزيز حوكمة أعمال المجتمع المدني ومساءلته عنها، ولكن دون شيطنة ولا تخوين ولا تكفير ولا تقييد للحريات. فنحن في أمس الحاجة لمجتمع مدني قوي من أجل تعزيز قيم الديمقراطية والحرية وسيادة القانون. كما أنه في ظل استمرار غياب الأحزاب الفاعلة يستمر المجتمع المدني في توفير فضاء لتمثيل المجموعات المتنوعة والدفاع عن مصالحها، ويوفر أحد أدوات المشاركة للناس ومساءلة الأنظمة ومنعها من إساءة استخدام سلطاتها. كما يساهم المجتمع المدني في التقدم الاجتماعي والاقتصادي.
نحن في أمس الحاجة لمجتمع مدني قوي من أجل تعزيز قيم الديمقراطية والحرية وسيادة القانون
كل ما أتمناه هو أنك في المرة القادمة عندما تصلك رواية تشيطن المجتمع المدني فكر فيها مرتين، وقم ببحثك الخاص، وتيقن ولا تترك نفسك رهينة لروايات جهات هي في الأصل غير موثوقة وتفتقر للمصداقية.