تاريخ ذو حدين!
من بين التعريفات الكثيرة للإنسان، يختار أحمد بهاء الدين، الكاتب والصحفي المصري الراحل، واحدًا يراه الأكثر دلالة ودقة: "الإنسان حيوان ذو تاريخ"..
ذلك أن الفأرة، مثلًا، تقع في الفخ نفسه الذي ظلت تقع فيه منذ آلاف السنين. بمصيدة بدائية وقطعة جبن أنت تستطيع أن تصطاد الفأرة الجدة، ثم الفأرة الأم، ثم الفأرة الابنة، ثم الحفيدة.. هكذا إلى ما لا نهاية. فالفئران كائنات بلا تاريخ، لا تكتبه ولا تقرأه، وبالتالي فهي لا تعرف كيف تنقل المعرفة والخبرة المكتسبة من جيل إلى آخر، بخلاف البشر الذين يوثقون بالتاريخ تجاربهم وأفكارهم وأخطاءهم واكتشافاتهم.. مقدمين زادًا للأجيال التالية، دروسًا مفيدة، علامات على الطريق، إشارات تحذير.
إذا كان غياب التاريخ دليلًا على غباء الفئران، فإن وجود التاريخ يكون أحيانًا دليلًا على حماقة البشر
ولكن هل المسألة على هذا القدر من التبسيط؟!
اقرأ/ي أيضًا: الطاعون.. صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية
لماذا إذًا نقرأ في كتب التاريخ عن الحروب المجنونة العابرة للعصور، عن الطغيان الأعمى ذاته، عن الجشع المهلك نفسه، عن الأنانية والكبرياء السخيف والتعصب والتي لا تني تتكرر في كل عهد وفي كل حقبة، عن المجزرة تلو المجزرة تلو المجزرة؟!
إذا كان غياب التاريخ دليلًا على غباء الفئران، فإن وجود التاريخ يكون أحيانًا دليلًا على حماقة البشر.
ماذا لو؟!
لا يزال التاريخ يُكتب هكذا: تعداد لأمجاد السلاطين والملوك والأمراء والقواد.. معاركهم، انتصاراتهم، تشييدهم للقصور والمساجد والجسور.. أما الناس، بقية الناس، فهم "العامة" في أوقات السلم، و"الدهماء" في أوقات القلاقل. يحضرون كـ"كومبارس" صامت في خلفية المشهد، وإذا ما نطقوا فبالهتاف لأولي الأمر وبالدعاء لهم بطول العمر..
في واحد من هذه الكتب، عن المماليك في مصر مثلًا، نقرأ مئات الصفحات في تمجيد سلاطين المماليك: ذكاؤهم ودهاؤهم وحنكتهم وقوة بأسهم.. وبالأخص بطولاتهم في المعارك واستبسالهم في الذود عن حدود البلاد وتأمينهم للعباد، ووقوفهم المشهود في وجه المغول القادمين من الشرق والصليبيين الآتين من الغرب.. ثم في فقرة صغيرة من دراسة أخرى عن العصر ذاته نقرأ: "على أن هذه العناية بالزراعة ومرافقها في عصر المماليك لا تعني بأي حال تقدم الفلاحين أو ارتفاع مستوى معيشتهم، فالفلاح المصري عاش في ذلك العصر قنًا مربوطًا إلى الأرض التي يفلحها ويفني حياته في خدمتها وليس له من خيراتها إلا القليل. ذلك أن خيرات البلاد ومحصولات الأراضي الزراعية كانت في الواقع نهبًا موزعًا بين السلاطين والأمراء ومماليكهم، في حين لم يبق للفلاحين سوى الكد والعمل ودفع ما يطلب منهم من أموال وهم صاغرون".
عندما تقرأ التاريخ تعرف بأنك لست وحدك، وأن الحياة لم تبدأ الآن وهنا، لم تأت معك ولن تذهب بذهابك، وأن لك شركاء عبر العصور عاشوا القلق ذاته
وهنا ثمة سؤال: ماذا لو لم ينجح المماليك في صد الأعداء عن حدود البلاد؟
اقرأ/ي أيضًا: المغول بين الأسطورة والتاريخ
يا له من سؤال ذلك الذي نقف إزاءه بين خيارين كالحين وكئيبين: القتل أو العبودية!
عزاء
ــ مدرس التاريخ: قراءة التاريخ دواء ناجع لأولئك المصابين بداء نظرية المؤامرة. ولكن، كما في كل مرض، فقبل أن نقدم الدواء لا بد للمريض أن يعرف أولًا أنه مريض.
ـــ أمن أجل هذا فقط نقرا التاريخ؟!
ــ مدرس التاريخ: إضافة إلى هذا، هناك العزاء العميق والشامل، فعندما تقرأ التاريخ تعرف بأنك لست وحدك، وأن الحياة لم تبدأ الآن وهنا، لم تأت معك ولن تذهب بذهابك، وأن لك شركاء عبر العصور عاشوا القلق ذاته، وخبروا مرارة الأسئلة نفسها، واكتووا بنار الوجود التي تلسعك. ويا له من عزاء أن تعرف أن كل العذابات سوف تتحول في النهاية إلى حكاية ممتعة يقرأها أحد ما، في زمن قادم ما، وهو مستلق على سريره.. ألم يقل مالارميه إن كل شيء يحدث إنما يحدث لينتهي في كتاب؟!
اقرأ/ي أيضًا: