دعوني أُخبركم خلاصة هذه القصة: "إنني أحاول". الآن لنقرأها سويًّا بشكلٍ مُعاكس، فقد انتهينا لتونا من القفلة: لقد وُلِدتُ في روحين اثنتين وجسدٍ واحد، وبمرور الأعوام صار مني اثنين اثنين، ولأنني مخلوق مُشوَه وفقًا لمعايير أمي عن الكمال، فقد زَجت نسخة مني في صندوق أفعالها التي ندمت عليها كثيرًا، وكانت هذه النسخة بندًا جديدًا في قائمة عنوانها "لو لم يكن".
ثم قدّمتني أمي إلى العالم، نسخة تستدعي بها الفخر، وكنتُ كذلك! ولسببٍ ما، سهو في تربيتي ربما، عشعشت في زقاق عقلي المُظلم حشائش عِناد وغلظة، ولفرط عجزي عن اظهارها رَويتها بالغضب، كنتُ أنزل إلى القاع يوميًّا أسقيها، كأنني في ذلك أُمارس رفضًا غير مُعلن. ولأن الطاعة أكبر دليل على الحب في العُرف المغلوط عنه، لم أجرؤ على أية مطالب بالتحرير. سَجنت أُمي جزءًا مني في صندوق ثم أمعنتُ انتقامًا منذئذ من نفسي.
وبمرور الأيام أكثر، صارت اللغة المُتدفقة من فمي تُلغي بعضها بعضًا في سورات غضبي، مما زادني حِنقًا، كأن اللغة المتزاحمة في فعل حذف آلي، واستمر ذلك حتى اختفى صوتي.
ثم كنتِ أنتِ...
وقد اقتسمتِ صوتكِ معي، فتشاركناه سويًّا، وشاركَنا العالم الطّيب حسيس عصافيره وأوراق شجره ومنحتنا اللغة بجزلٍ صدى الحروف ورنين المعنى... وبحة الحاء في الحب، ملكوت قوامه "الهسهسة" كما يقول رولان بارت.
ثم إذ جاء الليل ونحن في حالنا تلك، ارتجفتُ من سطوة الليل المُخيف، لو تقطعين حلكة ظلمته بسكين الجبن، هل جربتِ جبن الحلوم؟ عرفته في الغربة ثم أدمنتُه، لي طَبعٌ في حب الأشياء حَد الإدمان ثم التقزز منها فلا أٌقربها أبدًا، هذا طبع مُتطرفٌ يليق بي.
وإن الليل كما هو، لا يحلو له إلا استفزاز الأشباح المحجوزة في الصناديق، ألا أُخبركِ قصتي؟ كمحاولة للخلاص والقبض على السلام الهارب مني: "لقد اجتمع القضاة وقالوا: نحكم عليك بالمنفى داخلك،" لو أخطأوا في تلاوة الحكم وقالوا: اذهب إلى المنفى خارج هذه الأرض، لأدركتُ السعادة في الابتعاد. لكنهم عن خُبثٍ حددوا أُطر المنفى، ثم شرعوا بإعادة ترسيمه، فاقتلعوا الحُلم والحب والتجوال في أزقة الذكريات وحرّموا علي اشتهاء القهوة.
لقد صرتُ لا أبكي، بتُ نبتة كلما هزني النسيم فقدتُ أوراقي، وتعريتُ أكثر، وحينما رأى المزارعون عُري ساقي، اشمأزوا وثاروا فأوغلوا في خططهم المزعومة باستصلاحي وإنقاذي، كان عُريّ تجسيدًا لفشلهم المُمَنهج والنتيجة التي كانوا يتجنبون حصولها. فجاءوا بعلم الزراعة، راجعوا كتبه صفحة صفحة، اجتهدوا في انقاذي لكنني بعندٍ ارتأيتُ أن أبقى ساقًا يابسًا لا حياة فيه، فشلوا! وكم شمتُ بهم... لقد أحرجتهم.
ثم مررتِ أنتِ في مشاتلهم، فاخضررتُ وهربتُ في أصيص حملتِه بين ذراعيكِ بعيدًا إلى أرض من غير تُراب، لا غُبار عليها، شيء ما يشبه القلب.
نحن الآن في ساعات المساء الهادئة، أعيرني جزءًا من صوتك مُجددًا، دائمًا! فالأحباء شُركاء في المغنم والمغرم؛ ما رأيك مثلًا في روحاتٍ داخل الأزقة ذات الجُدر التي يشقها الزهر؟ أو مشهد غروب الشمس؟ ونسيم بحر يافا ليلًا؟ تُرى أي مغنمٍ أكبر من هذا؟ هل جربتِ شُربَ القهوة السادة من على سور المدينة العتيقة؟ احتسيها من فنجاني، حتمًا لها مذاق آخر يروي تاريخ البن المُتدفق صعودًا إلى رأسي، يهديني غيبوبة مرة بعد أخرى.
ها قد عرفتِ قصة صوتي الذي زُج في السجون واحتجزته الصناديق، وسيرورة حاجتي إلى اقتسام صوتكِ، هاتيه كَهِبَة أو لقاء مُقابل، أيًا كان! ودعيه يصرخ، يحكي، يُعبر عن غضبٍ أو إعجاب، كوني صوتي ونقطة عبوري إلى ضفة النجاة... دعيني أُحاول، لنحاول.
اقرأ/ي أيضًا: