لعلك الآن، والآن فقط، يمكنك الاستغناء عن كتب التراث الديني التي تتحدث عن أهوال يوم القيامة. فاليوم بكابل إنترنت، أو عبر التلفاز، تُنقل لك أيام القيامة المتتابعة.
باتت الغوطة الشرقية التي كانت غنّاءَ ببساتينها وأرضها الخصبة، أشبه بأرض محشر يوم القيامة من أهوال الحرب فيها
أرض الشام باتت أرض المحشر، وتحديدًا الغوطة الشرقية. حزام البساتين الغناء الذي يحيط بالشام كسوار الورد، أصبح اليوم حزامًا للكوارث والجرائم المرتكبة بحق الإنسانية.
اقرأ/ي أيضًا: الغارديان: "العالم أمام سربرنيتسا جديدة في الغوطة الشرقية!"
ومن عجب الزمان أن تكون الغوطة الغنَاء ببساتينها وأراضيها الخصبة، والتي اشتهرت بفاكهتها الطيبة، أن تعود اليوم إلى الشاشات العالمية، مشهورة بحدوث أكبر مذبحة بالكيماوي على غرار حلبجة العراقية، يموت فيها المئات أغلبهم أطفال ونساء.
كانت التسويات الروسية للمناطق التي يتم فيها حصار الأهالي من المدنيين والثوار، تقوم على دك الأرض دكاً، مما يملأ شريطًا إخباريًا نزقًا في شاشات الأخبار، ثم الجلوس إلى طاولة القهر أو التفاوض.. لا فرق. ثم الرحيل في الباصات الخضراء.
اليوم، ومنذ 45 يومًا، تقتل الآلة الروسية مع حلفائها من زبانية النظام المدنيين هناك بلا رحمة، دون حديث جديّ عن هدن أو تسويات حقيقية لا إسمية. والمدنيون لا يخافون فقط انتهاء القصف، بل يخافون الاعتقال أو التجنيد. وهو مصير لاقاه غيرهم في مناطق أخرى، إذ إن انتهاء القصف في هذه الحالات يعني دخول قوات النظام.
النظام يقصف الغوطة لأنها تهدد دمشق، أهم معاقل شرعيته المتوهمة، والأهم من ذلك وجوده. لذا فهو يقتل لأن مسألة القتل بالنسبة له هي مسألة وجود، "أقتل أو أنتهي"، هكذا يفكر السفاح المجرم.
الأسد الابن يخرج ليؤكد أن مسألة القصف في الغوطة هي مسألة ضرورية للقضاء على الإرهاب. حدة التنديدات العالمية تتراجع، ويُترك الناس لمصيرهم فيما بات يشبه التسليم لأمر الأسد هناك.
طاحون الموت الدائر في الغوطة الشرقية مشدود على وتر المواجهة منذ عامين، وكل ذلك من أجل 100 كيلومتر تسيطر عليها فصائل المعارضة هناك. النظام يقصف حتى الأقبية التي اتخذها المدنيون ملاجئ لهم بدلًا من منازلهم التي أصبحت ركامًا فوق ركام.
الصورة الأكثر منطقية لوجود روسيا الكبير في سوريا، هو إعادة إثبات فحولتها العسكرية أمام اقتصاد متآكل وشيخوخة سياسية وحكم قيصري
موسكو في السماء تريد العجلة، حتى لا تضع الولايات المتحدة يدها على الأمر، أو لنقل طائراتها، فتخرج موسكو من حفلة القتل فارغة الوفاض، كما حدث حين قصفت الولايات المتحدة في نيسان/أبريل الماضي مطار الشعيرات، في ريف حمص الشمالي ، بخمسين صاروخًا، مدمرة بذلك قاعدة جوية ومدرجًا للطائرات ومحطات وقود.
اقرأ/ي أيضًا: كيف صنعت روسيا طبخة الموت في سوريا اليوم؟
اليوم، وعلى حد تعبير نيويورك تايمز، تبدو روسيا وكأنها تضع إصبعها في السد منعًا من انهيار الأسد، وهي لا يمكن أن تزيله أبدًا، وإلا فإن مرادف إزالة إصبعها، هو إزالة الأسد بلا شك.
حتى الآن لا يمكن لسوريا أن تكون مستنقعًا فيتناميًا للروس، كما كانت بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها منذ 2015 وهي تمتص روسيا نحو الأعمق.
الصورة الأكثر منطقية لوجود روسيا الكبير في سوريا، هو إعادة إثبات فحولتها العسكرية أمام اقتصاد متآكل وشيخوخة سياسية يعاني منها هذا البلد.
يقول جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي السابق، أمام جمهور مؤتمر ميونيخ للأمن الشهر الماضي، عن روسيا: "إنه من خلال أي مقياس موضوعي، فإن هذا البلد في تدهور خطير". و هو أيضًا ما نقلته النيويورك تايمز.
جرائم ضد الإنسانية.. الأمم المتحدة تصحو من النوم متأخرة
في مقال آخر على نيويورك تايمز، أشار إلى بدء محققون في الأمم المتحدة بالحديث عن جرائم ضد الإنسانية، حيث أعلنوا الثلاثاء الماضي، أن طائرة روسية كانت مسؤولة عن الغارات الجوية على سوق في العام الماضي، وأسفرت عن مصرع عشرات المدنيين.
المحققون استخدموا لهجة مخففة تجاه روسيا، لهجة لا تعني سوى أن كل هذه "شكليات دولية" من أجل "نكش" الدب الروسي لا أكثر، ومن أجل ديكور دولي للإدانة لحفظ ماء الوجه.
وقد جاء في بيانهم: "إن الضربات قد لا تستهدف المدنيين على وجه التحديد، لكن استخدام قنابل غير موجهة في منطقة مكتظة بالسكان، يمكن أن يرقى إلى جريمة حرب من جانب روسيا التي لعبت دورًا حاسمًا في دعم الحكومة السورية".
تضع إلى جوار بيان فريق المحققين أعلاه، شهادات نشرها موقع جلوبال فوسيز، من طبيب أسنان سوري بالغوطة، يذكر أن طابع الحياة في المدينة المحاصرة بات مرهقًا من شدة بدائيته، وأن هناك أطفال وُلدوا في فترة الحصار لا يعرفون أشكال الفاكهة إلا من خلال الكتب المدرسية، ويعيشون في أقبية تحت الأرض في ظروف تفتقر إلى الكهرباء المنتظمة والماء، وينتشر فيها "الجرب" بسبب ضعف التهوية.
أما الجديد في يوم القيامة بالغوطة، هو الأقبية التي انهارت بالفعل على رؤوس ساكينها. وشكلت صعوبة حقيقية على فرق الإنقاذ التي تعمل على مدار الساعة هناك.
لوحة يوم القيامة في الغوطة، يجب أن يرسمها فنان ليس أقل اكتراثًا من مايكل أنجلو، وأن يقف تحتها القتلة وهي تقطر دمًا على وجوههم
لوحة يوم القيامة في سوريا، يجب أن يرسمها فنان ليس أقل اكتراثًا من مايكل أنجلو، ولوحته على حائط كنيسة سيستين بالفاتيكان، يجب أن يقف تحتها القتلة، وهي تقطر دمًا على أفواههم ووجوههم وأعينهم، بعد أن لونت حياة العالم بكل دماء السوريين منذ سبع سنوات حتى اليوم.
اقرأ/ي أيضًا:
مذبحة القرن 21.. الغوطة الشرقية تحت وطأة أعنف الهجمات الدموية من النظام السوري