"لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر، إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"، هكذا قال "سيف الله المسلول" خالد بن الوليد عند وفاته، بعد حروب عديدة دفاعًا عن عقيدته التي كان هو نفسه يعاديها، وقاد جيش قريش ضد المسلمين في غزوة أحد، وانتصر عليهم، وشارك في غزوة الخندق فى صفوف جيوش الأحزاب.
النجاح في مجتمعنا بات نجاح الابتذال والسّفه
وقبل الإسلام كان خالد بن الوليد يصنع صنمًا من التمر قبل أن ينام، ليعبده في محرابه، وفي الصباح يأكله، وبعد الإسلام صار يقود جيوش المسلمين خططًا وحربًا؛ هكذا هو الفرق بين مجتمعنا اليوم، ومجتمعنا حينما كانت تحكمه العقيدة، فلن يقول لك أحد اليوم كن كخالد بن الوليد، يغني فيه الشعراء مدحًا لشجاعته في الدفاع عن وطنه وعقيدته، ولذكائه في إدارة الأمور الطارئة، وابتكار حلول للأزمات المستعصية، وإنما سيقولون لك كن ناجحًا كمشاهير التمثيل، تخرج على الناس كل عام في بداية رمضان بمسلسل جديد، تتقاضى الملايين وتزيد شهرتك ومعها يزيد انحدارنا الأخلاقي، متلفظًا بكل ما هو نقيض ومنافٍ لأخلاقيتنا، وسيقتدي بك الشباب، لأن النجاح في مجتمعنا بات نجاح الابتذال والسفه!
اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا يحب الإخوان عبدالله بن مسعود؟
وإن كنتَ مسؤلًا في منصب ما فلن يقول لك أحد كن كعمر بن الخطاب حينما كان مسؤولًا، فكان يخاف أن يأتي طير من الأندلس يهبط بلاد العرب دون أن يجد ما يأكله، فيسأله الله "لماذا لم تزرع له حبًّا يا عمر؟"، وإنما سيقولون لك كن حريصًا على تأمين مستقبل أولادك فقط، ارتش لو تطلب الأمر ذلك، واستغل منصبك لتسهيل الأمور أمام أبنائك، وخذ من غيرهم وأعطهم، ولا تعط فرصة العمل في المؤسسة المسؤول عنها لأصحاب الكفاءة، وإنما أعطها لأبنائك وإن كانت في مجال غير مجالاتهم، فلا مشكلة إن كنت وزيرًا للصحة وأعطيت منصبًا لابنك المهندس في نفس المؤسسة، فجميعها شهادات جامعية!
وإن كنت حاكمًا، لن يقول لك أحد كن كيوسف عليه السلام، واخرج من أزمة القحط بإحسان التدبير والتخطيط وترتيب الأولويات، فغالبًا يكون الفساد من سوء تقدير الأزمات وإدارتها، وليس من قلة الموارد، بل سيقولون لك افعل ما شئت وما تراه صحيحًا، ولا تصغ لأحد، وإن لم تصب في قراراتك فاخرج على المحكومين وقل لهم إننا نعاني عجزًا في الموارد، وسيصدقونك غالبًا، وربما يصفقون لك!
يُقاس المجد الآن بمعيار عدد من سمعوك أو عرفوك وليس بعدد من أفدتهم
وإن كنت صغيرًا في السن فلن تجد من يقول لك: لكي تكون ناجحًا لا بأس أن تكون كطه حسين، الذي أصاب الرمد عينيه وهو في الرابعة من عمره، وأطفأ نور الحياة في وجهه، ولكنه ترك علمًا وأدبًا أضاء طريق أجيال من بعده، وإنما ستجد من أهلك من يذهل بك إلى أحد البرامج المسابقات الغنائية ليصعد بك قمم المجد وأنت صغير، اعتقادًا منهم أنك لتنجح لابد وأن تصبح مشهورًا، فالمجد الآن يقاس بمعيار عدد من سمعوك أو عرفوك وليس عدد من أفادتهم كلماتك، ولأن الناجحين في مجتمعنا اليوم يتقاضون مبالغ ضخمة، فخلّد التاريخ اسم طه حسين.
كفاكم عبثًا بعقول أطفالنا، ألم يكفكم استقواء العالم علينا واستحلال أوطاننا ومقدساتنا ودمائنا في القدس والعراق وسوريا واليمن، واستحلال كرامتنا ودهسها؟ ألم يكفكم جثثنا المنثورة على شواطئ البحار هربًا من جحيم أوطاننا؟ ألا تسمعون صراخ الزنازين كلما أتى إليها سجين جديد؟
اقرأ/ي أيضًا: أنا مصري.. فمتى ستقتلونني؟
حينما أتذكر أين كنا وأين نحن الآن ينفطر قلبي قهرًا على حالنا، وأدعو الله أن ينجلي هذا الليل الملعون، ويطلع علينا فجر جديد، يحمل معه شمس الكرامة التائهة بين ضباب الفضاء المغموم، فبتركنا أسس كرامة وحرية وتحقيق تنميتنا المعتمدة على سواعدنا، اختلت موازين القوى واستدارت الاتجاهات، وأصبحنا في ذيل الأمم، نجري وراء سراب، ولا نملك قوتنا ولا دواءنا، رافعين أيدينا استسلامًا، وحانين رؤوسنا إذلالًا أمام الغزاة، فتبًا لأمة ركعت أمام أعدائها بلا حرب، فإذا كانت هذه هي مصر التي تريدونها، فهي إذن أمكم وليست أمي.
اقرأ/ي أيضًا: