03-يوليو-2024
هنادي العنيس

عمل فني نفذه طفل من غزة في حرب سابقة

طفل يولد وطفل يموت، وطفل نسيت إسرائيل أن تقتله. يستغرق عرض قائمة آلاف الأطفال الذين لقوا حتفهم منذ السابع من أكتوبر في قطاع غزة بضع دقائق فقط، تمر بالسرعة نفسها التي مرت بها حياتهم.

هناك أطفال كانوا أجنة في بطون أمهاتهم لم يعيشوا لحظة واحدة من قبل، ولهم قبور في فلسطين، وأطفال خُدج وجدوا أنفسهم في معركة صعبة للبقاء على قيد الحياة، فماتوا في حضاناتهم من قلة الحليب بعد أيام على ولادتهم، وأطفال ما زالوا محمولين على الأيدي أغمضوا أعينهم كي لا يراهم الصاروخ الثاني فتكدسوا في مقابر جماعية تحت ركام البيت الذي نزل على رؤوسهم، بين مأساة أن يكونوا من الضحايا ومأساة أخرى أن يكونوا من المفقودين. وأطفال أصيبوا قبل أن يحتفلوا بعيد ميلادهم الأول ينتظرون في غرف الطوارىء المكتظة أن يأتي دورهم، ولم يعرف أحد ماذا كانت أحلامهم بعد أن وضِعَت أجسادهم في عربات المُثلجات ليُقتلوا مرتين، وأطفال حاولوا الركض حفاة إلى درجة أنهم لم يعودوا قادرين على المشي، لا يحملون غير الملابس التي عليهم، فلم يكتفِ الجندي المُحتمي بآلة القتل من سرقة أعمارهم ليموتوا بالشوارع كل قطعة منهم في جهة غير الأخرى، وأطفال رحلوا تاركين أفواههم مفتوحة على ملئها ولا لقمة تُرجعهم إلى الدنيا من موتهم جوعى دون أن يتعشوا، وأطفال أحرقوا وهم على قيد الحياة في الخيام التي نزحوا إليها حيث كان في انتظارهم المكان الآمن.

وهناك أطفال ناجون يقصون بكلمات الكبار ما عاشه الصغار في هذه الحرب، التي تركت كل طفل فلسطيني دون أن يعرف ماذا يعني أن تكون له عائلة كاملة هذا ولم يُحصَ بعد عدد الأطفال الذين تركوا بلا فرد واحد حتى منها، وآخرون يسكنون في جيب جغرافي صغير في حالة صدمة إلى الأبد معظمهم لم يجربوا العيش إلا مع حروب إسرائيل، وعشرات الآلاف يكتبون وصيتهم... فأي طفل في العالم هذا الذي يكتب وصيته؟

إن حياة الحرب تضيف إلى أطفال غزة جزءًا لا يعرفه أطفال العالم الآخرين، كلهم كُتبت أسماؤهم على أذرعهم وأرجلهم، ليصنعوا صورة للطفولة لم يشهدها التاريخ البشري بكل أحداثه السياسية

إن حياة الحرب تضيف إلى أطفال غزة جزءًا لا يعرفه أطفال العالم الآخرين، كلهم كُتبت أسماؤهم على أذرعهم وأرجلهم، ليصنعوا صورة للطفولة لم يشهدها التاريخ البشري بكل أحداثه السياسية، ولا خاضتها مدن قبلًا أو عايشها أي شعبٍ آخر فوق هذه المعمورة. وهذا ما لا يمكن نسيانه، إذ كيف لشعب أن ينسى من قتل أطفاله بهذه الطريقة في الطابور الطويل للحصول على رغيف خبز؟

تكمل غزة شهرها التاسع من الحرب، ومازالت الدولة العبرية تختبىء وراء شعار معاداة السامية، وتمحو أجيالًا في قطاعها الذي يُقتل فيه طفل كل عشر دقائق، بأعداد تُنافس أبشع حروب الإنسانية. ليدفع بذلك أطفال فلسطين أغلى ثمن، عطشًا وجوعًا ومرضًا وفزعًا وخنقًا وتعذيبًا وحرقًا وقنصًا وقصفًا، لنزاع ليس لهم أي سيطرة عليه، في ظل صمت المجتمع الدولي وغياب المساءلة القانونية والإفلات من العقاب.

لكن الحرب الأخيرة التي بدأت من حيث انتهت الحروب السابقة، لا يمكنها أن تطمس حقيقة أن عاصمة نتنياهو هدفها قتل أكبر عدد ممكن، وذلك العدد سيكون من الأطفال، دون أن تحسب ما الذي سيأتي من قتلها الجماعي لهم، أو ما قد تجنيه منه، بل ما الثمن الذي ستدفعه مقابله ومع ذلك فهي مستمرة، في أكثر الأعوام دموية عليهم، أولئك الذين ينظر الإرهاب الإسرائيلي إليهم كمنتقمين محتملين منذ عام 1948.

ووفق كم لا حصر له من الشواهد والأدلة والمعطيات الموثقة، فإن المذبحة الصهيونية ضد الطفولة الفلسطينية طويلة ومستمرة ومتجددة مع سبق الإصرار والترصد الإجرامي، رامية لتحويل حياة الطفل الفلسطيني إلى جحيم دائم وقلق مستمر.

إذ لم تخلوا دفاتر اليوميات الفلسطينية يومًا وعلى مدار عمر الاحتلال، من ترويع أو إصابة أو استشهاد الأطفال الفلسطينيين، في استهدافهم بنيران القناصات وقذائف الدبابات وصواريخ المروحيات؛ هم وفقط هم وحدهم الذين ذاقوا المُر برؤية أحبائهم بلا أجساد كاملة.

بهذا فإن فلسطين باتت أسوأ مكان تنتهك فيه حقوق الطفل في العالم. فالأطفال في فلسطين يعرفون في دواخلهم أنهم لا يكبرون، وهذا ما صرّح به طفل فلسطيني عندما سُئِل: "ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟" ليُجيب: "نحن لا نكبر، وإنما نموت فجأة، هكذا هي الحياة في فلسطين".

وإذا لم تكن إسرائيل، فمن الذي يقتلهم إذن؟ إن كل الأطفال في غزة الآن يبكون بصوت واحد.