عمرٌ بحجم انتظار الأرض وداعها الأبدي، وظلّ يتوسد كل الزوايا، ليسطو على ما تبقى من نهار متعب، يبدو أنه سيرحل سريعًا. الشتاء يئن تحت ثقل الأمطار، والدروب تعكس بقلقها آهات أوراق تتراكض فوق أرصفتها لتداعب جدران حمقى، واقفة منذ الأزل هناك على حافتيها.
هو القدر إذًا. أن يرتعي المساء خبز كفافه من غيوم تسكن مخيلة الأفق كل يوم، لترسل صدى شبقها اللامحدود، وعوائها المجنون لجراء جائعة تركها القطيع وحيدة في غابة غائبة عن الخرائط كلها.
ستأتي رغم ذلك الانتظار عند بوابة غروب يعلن عن فتح الأبواب الموصدة لتنام الأغصان، ويتوارى الآدميون عن الوجود، معلنين حدادًا أبديًا، فتخرج الخفافيش، وبعض من بقايا كائنات تملأ شقوقه نعيبًا، وصراخًا جائعًا.
الإنشاد.. كل الإنشاد هنا... وشاعر يقبض على قيثارته، يحلم ببراعم قصائد تتفتح من جديد، وشيوخ فرّيسون يمتحنون المداخل والمخارج لكهوف الشرق، يبحثون عن سكينة طالما حلموا بها... سيأتي ومعه لثام أسود، يمتطي أفراس النهر، ويرتدي دروعه المثقلة بالحديد، يدير دفة النهار نحو غيب ضاعت مفاتيحه هو الآخر في رحلة قدوم جديدة.
المشيئة وحدها من تدفع الكائن إلى الانطلاق من رحم المجرة، ليقتلع كل شيء، باللاشيء.. وتنتهي الرحلة عند ورود خائفة، فتطأطئ رأسها حذر التلاشي، وحده يغلق المتاريس على تاريخ غير معلن، ويسترسل في سرد قصص مازالت شاردة الذهن لفقراء قضوا تحت الثلج، يبحثون عن أنفاسهم اللاهثة.
فلتكن إذًا سيدي! ليلي بك يلقى العمق عمقه، وينكسر الزجاج ناشرًا أشلاءه الموجعة في كل الردهات بحثًا عن قدم تعبرها... كأن الأنين لحنك، والطين يسكن روحك للأبد، وكأني ما بدأت بعد التدوين في أول ساعة خلت لعمر الأرض الذي طال بحجم انتظارنا له.
تأوينا العزلة، ونشفق من تلك الأغاني التي تداعب أحزان أرواحنا التائهة في مقبرة سوادك... الفراغ هنا يسد الأفق بجوع لا نهاية له، والرعب يسرف في وحدته، متنذرًا ولادة مسخ نبذته الكينونة لحظة زواج غير شرعي.
سأرتدي دروعي وأتنهد خوفي كما كائناتي الشاردة في الطرقات، تلتفت في كل اتجاه... تلتفت إلى منفى يطارد قلبها اليابس كقطعة خشب ارتوت من شمس الظهيرة. ستأتي إذًا، ونرفع الابتهالات بقدومك لنعلن رحيل السواد، واشتعال الحنين والذكريات.
اقرأ/ي أيضًا: