لم تكتف الولايات المتحدة بما طالها من سوء سمعة مدوية بسبب إدارتها سجن غوانتانامو سيئ السمعة، وإنما تمادت في تجاوزاتها بإدارتها سرًا، معتقلات عائمة في عرض المحيط الهادئ. صحيفة "USA TODAY"، نشرت حوارًا صحفيًا، مع صحفي أجرى تحقيقات حول هذه المعتقلات مُسجلًا شهادات عدد من الذين احتجزوا فيها، ننقله لكم مترجمًا بتصرف في السطور التالية.
إذا كنت قد تابعت الحرب على الإرهاب، فعلى الأرجح أنت على دراية بسجن غوانتانامو بكوبا، وهو سجن أمريكي موجود خارج نطاق نظام العدالة الأمريكي.
تُدير قوات خفر السواحل الأمريكية معتقلات عائمة في مياه المحيط الهادئ، تحتجز فيها من يُشتبه في تجارتهم للمخدرات، لمدد تصل لشهور
وفي محاولةٍ للتضييق على تدفق الكوكايين وغيره من العقاقير من أمريكا الجنوبية إلى أمريكا الوسطى والشمالية، تم نشر سفن خفر السواحل الأمريكية على مسافة أبعد من الشاطئ في المحيط الهادئ. فعندما تعترض هذه السفن قاربًا يحمل مخدرات، يُؤخَذ المهربون إلى السفن ويظلون مقيدين على سطح السفينة، إلى أن يُرتِب خفر السواحل لنقلهم إلى الولايات المتحدة للمحاكمة.
اقرأ/ي أيضًا: ترامب يعود بأمريكا إلى أجواء 11 سبتمبر
ولكن هذا الانتظار لا يدوم لبضع ساعات أو أيام، ففي كثير من الأحيان، قد يستمر هذا الانتظار أسابيع أو أشهر، فوفقًا لتقارير صحفية حديثة، يقول مسؤولو حرس السواحل أنهم يحق لهم فعل ذلك لأن مهربي المخدرات ليسوا قيد الاعتقال حتى يصلوا إلى الشواطئ الأمريكية، ولكن بعض اسوأ الحالات أثارت الانتقادات حتى من مسؤولي حرس السواحل أنفسهم.
سيث فريد ويسلر، أعد هذا التقرير لصحيفة نيو يورك تايمز. يقول إن مجموعة من الاتفاقات الأمريكية مع دول أمريكا اللاتينية وقانون إنفاذ قوانين المخدرات في الولايات المتحدة تسمح للولايات المتحدة باتخاذ هذا الإجراء. تحدث ويسلر مع كارول هيلز من صحيفة "ذا وورلد)" عن تقاريره وعن "معتقلات غوانتانامو العائمة" في المحيط الهادئ، وهذا هو الحوار:
يُعرَف خفر السواحل بأنهم رجالٌ خيرون ينقذون الناس، ويقبضون على الأشرار. لقد كتب حول ذلك الكثير من القصص الجيدة، لكن أليس الأمر أكثر تعقيدًا؟
نعم، لدى خفر السواحل مهمةٌ واسعة، فهم يقومون بالبحث والإنقاذ، وتطبيق قوانين مصايد الأسماك، وقوانين المخدرات في المحيطات. ما يعرفه عدد قليل من الناس، هو أن خفر السواحل الأمريكي قد تم نشره في السنوات الأخيرة في أعماق المحيط الهادئ لمنع مهربي المخدرات الذين يتنقلون بين أمريكا الجنوبية وكولومبيا والإكوادور وأمريكا الوسطى، حيث تُترَك المخدرات -التي غالبًا ما تكون كوكايين- ثم تُنقَل في كثير من الأحيان عبر المكسيك. وتنتشر سفن خفر السواحل هذه في أعماق المحيط الهادئ، في بعض الأحيان على بعد آلاف الأميال من أقرب ميناء أمريكي، حيث يحتجزون مهربين مشتبه فيهم ويحملونهم على متن هذه السفن.
تكتبون عن بعض الإكوادوريين الذين ينقلون المخدرات وينتهي بهم المطاف إلى التصفيد في الأغلال لأيامٍ عديدة، على متن قوارب خفر السواحل. هلا أعطيتنا وصفًا سريعًا لهذا الرجل، على وجه الخصوص، "جوني أرسنتاليس"، وكيف انتهى به المطاف هناك؟
هو صياد من بلدة ساحلية في الإكوادور وكان يمر بضائقةٍ مالية واتخذ قرارًا بتهريب الكوكايين قبالة ساحل الإكوادور. لم يكن يعرف الكثير عمّا كان يفعله.
بينما كان ينقل هذا الكوكايين على متن قارب مع ثلاثة رجال آخرين، إكوادوري آخر وكولومبي، كانوا يقتربون من أمريكا الوسطى، واقتربوا من غواتيمالا واعترضت البحرية الأمريكية وخفر السواحل هذا القارب، وقبضوا على هؤلاء الرجال. وخلال الـ70 يومًا التالية، ظل أرسينتاليس والرجل الآخر الذي كان محتجزًا معه، مكبلين بالسلاسل من الكاحل، والسلاسل مربوطة بسطح السفينة أو بكابل طويل على تلك السفن البحرية الكبيرة، ولمدة 70 يومًا.
هذا الرجل، أي أرسنتاليس، ورجل آخر على متن سفينة خفر السواحل المُكدّسة والمُكتَظة بالمعتقلين، وهم مقيدون، ولا يحصلون على الكثير من الطعام. كيف يمكن لحرس السواحل احتجاز الناس في ظل هذه الظروف بينما لم تصدر ضدهم أي أحكام قضائية؟
حُجة خفر السواحل هي أن هؤلاء الأشخاص ليسوا قيد الاعتقال رسميًا حتى يصلوا إلى الولايات المتحدة. إنهم ببساطة محتجزين قسريًا، في حين أن خفر السواحل يتعامل مع التحديات اللوجستية في محاولةٍ لإرسال هؤلاء الرجال إلى الشاطئ في طائرة، ثم يرسلون إلى ولاية فلوريدا، حيث سيتم محاكمتهم.
وقد قبلت المحاكم عمومًا حجة الحكومة، أو بمعنى أصح حجة خفر السواحل والمدعين العامين الفيدراليين، بأن هذه التأخيرات اللوجستية مشروعة، لأنه من الصعب جدًا إعادة الناس إلى الشاطئ!
والحقيقة هي أنه عندما يضطر خفر السواحل إلى نقل الناس بسرعةٍ أكبر، يفعلون ذلك. في كثيرٍ من الأحيان، يتم إحضار المحتجزين إلى الميناء على متن إحدى هذه السفن، ثم يُوضَعون في غرفةٍ مخبأة في حظيرة طائرات هليكوبتر أو في غرفة تحت سطح السفينة، حيث يختفون هناك طوال اليوم بينما تتزود سفينة خفر السواحل بالوقود أو يحصل طاقم خفر السواحل على القليل من الراحة ثم يتم إعادتهم إلى البحر.
إذن، يُمكن تسمية ما نراه الآن بأنه نوع من "الترحيل القسري". نقل مهربي المخدرات المشتبه بهم في جميع أنحاء المحيط لمدة متوسطها 18 يومًا، وفي كثير من الأحيان أطول من ذلك، بينما تنتظر الحكومة لنقل هؤلاء الناس إلى المحاكم في ولاية فلوريدا.
وجدير بالإشارة إلى أنّ الجنرال جون كيلي رئيس أركان دونالد ترامب، قد لعب دورًا رئيسًا في توسيع نطاق خفر السواحل بهذه الطريقة. كان جون كيلي مسؤولًا عن القيادة الجنوبية، وهي منطقة عمليات وزارة الدفاع في أمريكا اللاتينية التي تتولى إدارة حرب المخدرات في أمريكا اللاتينية. وكان رئيس القيادة الجنوبية بين عامي 2012 و 2016 ثم تقاعد. وفي ظل إدارة ترامب، أصبح رئيسًا لإدارة الأمن الداخلي، التي تُشرِف على خفر السواحل.
في مناسبتين، كان قد لعب دورًا في هذه العمليات. كان جون كيلي بالفعل أحد مؤيدي هذه الفكرة، إذ وصف تهريب المخدرات في أمريكا الوسطى بـ"التهديد الوجودي الموجه للولايات المتحدة". أما فكرة الحاجة إلى مد ودفع حدود الولايات المتحدة بعيدًا إلى مدى أوسع من حدودنا الفعلية في سبيل الدفاع عن وطننا، فأسفر في النهاية عن هذا الجهد الموجه لمنع المخدرات في أماكن بعيدة عن الولايات المتحدة، في أماكن لا يمتلك مهربو المخدرات ذاتهم سوى معلومات قليلة بشأن الوجهة النهائية للمخدرات التي يحملونها.
إدارة ترامب كانت السبب الرئيسي وراء توسيع نطاق عمل خفر السواحل وصولًا إلى ممارسات الاعتقال والاحتجاز في عرض البحر
بالتالي فإن جوني أرسينتاليس وغيره من الرجال الذين تحدثت إليهم لا يعبأون بوجهة هذه المخدرات، كل ما يخصهم هو أن هذه المخدرات تتحرك من أمريكا الجنوبية إلى أمريكا الوسطى. ما يجري بعد ذلك خارج عن نطاق سيطرتهم، إلا أننا نعتقل الناس في المياه الدولية، على متن قوارب أجنبية في الأغلب، وعلى بعد آلاف الأميال من الولايات المتحدة!
اقرأ/ي أيضًا: حرب دونالد ترامب المقدسة
إذن فخفر السواحل يعتقلون الأشخاص المتواجدين على متن هذه القوارب، وليس من الواضح إن كانت الأدوية المخدرة الموجودة على متن هذه القوارب متجهة إلى الولايات المتحدة أصلًا أم لا؟
في الأغلب يتوجه معظم الكوكايين المهرب على متن هذه القوارب الصغيرة في الأغلب إلى الولايات المتحدة، إلا أن بعضه قد يُوجه إلى أسواقٍ أخرى، مثل الأسواق الأوروبية أو الأسترالية أو غيرها. لا يتضح دائمًا إن كانت هذه الأدوية متجهة للولايات المتحدة في نهاية المطاف أم لا.
في الحقيقة قضت محكمة استئناف كاليفورنيا، أنه ليس بوسع الولايات المتحدة محاكمة هذه القضايا إلا بوجود إثبات على توجُه المخدرات إلى الولايات المتحدة ووصولها إلى هناك في نهاية المطاف. وهو أحد الأسباب التي تدفع الادعاء العام الفيدرالي إلى تفضيل جلب هذه القضايا إلى فلوريدا، التي لا تطالب بوجود ذلك النوع من الإثبات.
ما الذي حدث لجوني أرسينتاليس؟ كم يومًا قضى على متن هذه السفينة؟
اعتقل في أيلول/سبتمبر 2014، وعلى مدار السبعين يومًا التالية، اُحتُجز على متن سلسلة من قوارب خفر السواحل وفرقاطات البحرية، متنقلًا عبر المحيط الهادئ. وهي التجربة التي اعتقدَ أنه قد يختفي بالفعل خلالها وللأبد.
لم يعلم بنقله إلى الولايات المتحدة، ولم يُسمح له بالاتصال بعائلته، ما دفعه للتساؤل عما إذا اعتقدوا أنه توفي. في نهاية المطاف، جُلب إلى ساحل أمريكا الوسطى، وقيل له: "سيجري تسليمك إلى إدارة مكافحة المخدرات الآن"، ونُقل إلى الولايات المتحدة للمثول أمام المحكمة بعد ما يزيد على شهرين من الاحتجاز على متن هذه السفن، ثمّ أُحيل إلى الولايات المتحدة ليواجه الاتهام الجنائي بموجب قوانين الاتجار في المخدرات، وحُكم عليه بالسجن لعشر سنوات في السجن الفيدرالي. وهو الآن في إحدى السجون الفيدرالية في نيو جيرسي.
تعود أصول جوني إلى الساحل المركزي في الإكوادور، حيث غادر العديد من الرجال للمشاركة في رحلات التهريب المماثلة. وقبل ما يزيد على عام، ضرب زلزال مدمر الإكوادور، وترك الكثير من الأسر في ظروفٍ اقتصاديةٍ خانقة. منذ ذلك الحين، ازداد عدد الأشخاص المغادرين. وبعد وقتٍ قصير من الزلزال، قرر صهره قبول إحدى هذه الوظائف وترك الوطن. لم يُخبر أحدًا بل اختفى فجأةً، وبعد أيام، التقطه خفر السواحل، وحُكم عليه بالسجن لعشر سنوات في إحدى السجون الفيدرالية.
لم تُناقش قانونية ممارسات احتجاز خفر السواحل الأمريكي سواءً على المستوى الدولي أو على مستوى المحاكم الجنائية. حاول محامو الدفاع القول بأن الظروف المحيطة بهذه الممارسات تسفر عن معاملة غير آدمية، وهو ما وافق عليه بعض القضاة، إلا أنهم قالوا إنه ما من شيء يمكننا القيام به، والقانون لا يسمح لنا بالتخلص من هذه القضية.
ماذا عن عامل سوء السمعة بخصوص هذه القضايا؟
إن هذا النوع من الممارسات لم يُعرف إلا مؤخرًا. لقد راسلت عشرت الرجال وتلقيت الرد من الكثيرين ممن اُحتُجزوا على متن قوارب خفر السواحل، واصفين ظروف احتجازهم. لقد وصفوا ما بدا لي رعبًا حقيقيًا في أعالي البحار. إن تلك القصص لم تُرو من قبل، ولا يعرفها الكثيرون، لذلك "سوء السمعة" الذي قد يطال خفر السواحل والحكومة الأمريكية عمومًا، لا يزال في حدود النطاق الضيق.
هل من المسموح لهم استخدام دورة مياه مناسبة؟
لا، دورات المياه تختلف على متن هذه السفن، من سفينةٍ إلى أخرى. تُوفر لهم دِلاء بشكلٍ أساسي لاستخدامها كمراحيض على متن بعض هذه القوارب. ويُطالَب هؤلاء الرجال بتنظيف هذه الدِلاء والتخلص من محتوياتها عبر حافة السفينة. وهي العملية التي وصفوها بأنها مثيرة للاشمئزاز. بينما يقول خفر السواحل: "سفننا ليست مجهزة كمراكز احتجاز. لا نمتلك المرافق المناسبة. هذا ما نملكه"!
أمتلك أدلة على احتجاز البعض لما يصل إلى 70 يومًا، كما أخبرني أحد مسؤولي خفر السواحل عن احتجاز البعض لتسعين يومًا، إلا أن خفر السواحل لا يمتلكون قواعد واضحة بشأن المدة الزمنية لاحتجاز الأفراد.
هل تحدثت مع العائلات؟
نعم، في الحقيقة تظن الكثير من العائلات بأن ذويهم من الأزواج والآباء والأبناء قد اختفوا للأبد، إذ ليس من الغريب أن يبتلع البحر الصيادين. وبالنسبة لهؤلاء الصيادين (قبل أن يتحولوا لتهريب المخدرات)، يُمثل المحيط جغرافية حياتهم، لذا حين تحدثت لأرسينتاليس على سبيل المثال حول المحيط، قال لي: "لطالما مثّلَ المحيط الحرية بالنسبة لي، لكنه الآن بات سجنًا".
تصل مدة احتجاز خفر السواحل الأمريكي للصيادين مهربي المخدرات في عرض البحر، لتسعين يومًا وربما أكثر
يقر هؤلاء الرجال جميعًا بأخطائهم: "نفهم أننا كسرنا القوانين واتخذنا هذه القرارات. ونفهم تعرضنا للعقوبة بسبب ذلك"، لكن السؤال الذي يثيرونه هو "كيف وصلنا إلى الولايات المتحدة، أو كيف أصبحنا هنا الآن ولماذا؟".
اقرأ/ي أيضًا: