- إلى الصديقة الناقدة والشاعرة: فيء ناصر
في رثاء الشاعر بوشكين، قال ميخائيل ليرمنتوف:
"كلُّ نُوَاحٍ الآن عَقيم/ وَفَارِغةٌ تَراتِيلُ الإطرَاء/
وَهَمهَمَات الأسَى الكَسِيح/ ونحنُ نُحملقُ في إرادةِ الموت"
في العشرين من عمري تقريبًا، الساعة تجاوزت الثانية عشرة من منتصف تلك الليلة الباردة، وجهازي المحمول مُضاء، بينما الظلام قد انتشر وتفسّح في الغرفة، وكتبٌ مكدسة على السرير الذي وضعتُ عليه جهازي، ومددتُ ساقي بجانبها، وقد أضاءت شاشته على صفحةٍ لمنتدى أدبيّ، يجمعُ آلافًا من الأفواه اللامرئيّة، الناطقة بالشّعرِ، كلّ فيهٍ له اسم ورقم. لا أحد يعرفُ حقيقة الأسماء، وكان لي اسمٌ أختبئ خلفهُ وأكتبُ.
الحقيقة، كانت لي أسماء كُثر، أستبدل الواحد منها كل يوم، أخلعُ ذاك لألبس هذا، وأخلعُ لاحقًا هذا، لألبس آخر. كانت الأسماء كربطاتِ العنقِ، تُعطينا شكلًا للكلمات التي نُطلقها في ذاك العالم المكعب المضيء، أشجعنا من كان يحشرُ نفسهُ بيننا دون أن يرتدي ربطة عنق؛ إذ كان مُريبًا بالنسبة لنا، والاقتراب منه يستوجب الحذر.
لم أكن أشعرُ بالنعاسِ ساعتها، وقد فرغتُ للتو من كتابة نص نثريّ طويل عن الموتى، وعودتهم للأمكنة المحببة لهم قبل الغياب، وتأكدتُ من وجود ذاك الصديق الذي كان يُثرثر معي على الماسنجر، وكلانا وحيدٌ في ضجيج أيامه، ويبحثُ عن ردهة لتفريغ الكلمات المتكدسة فيه، لآخر يُشبهه؛ إننا نبحثُ عن أشباهنا في كل يوم. ولكنه لم يكن متصلًا ساعتها، فتركتُ له نسخة من نصي الأخير ليقرأه لحظة اتّصاله.
تجوّلتُ بين ساحات المنتدى، وقرأت المواضيع المطروحة كلها، وتركتُ جوابًا فلسفيًا لذاك، وآخر سطر قصيدة أحفظها لشاعرٍ أحبّهُ؛ كردٍّ على قصيدته، حتى وقع نظري على اسمٍ مركّبٍ يعودُ لفتاةٍ/ ربطة عنق أنثوية -كانت ثمة ميزة نُميز بها جنس الكاتب- وقد كتبتْ:
"ينحدرُ الضوء من المصباحِ إلى الماءِ،
ينحدرُ الماء،
أنحدرُ أنا،
وجهي دائرةٌ فوقَ الجسرِ،
دُوارٌ أحمر،
يأخذ شكل الأفق الدائرِ".
*
عدتُ ببصري مجددًا للنصِ المنشور، وقرأتهُ هذه المرة بصوتٍ مسموع حتى أنتبه، فلا أحسبني في غفلة الصمت الملازم للوحدة، إذ إنك آن تألف وحدتكَ وتعتاد عزلتك تسمعُ بوضوحٍ أصوات رأسك، ودواخل نفسكَ، وقد تتداخل في مرات لا تعد ولا تحصى مع أصوات الخارج الذي فررت مرارًا منه/عنه، ولهذا تحتاج لأن ترفع صوتك آن تقرأ ما تُريد حقًا لأصواتك الداخلية أن تسمعه، وتنتبه له، فرفعتُ صوتي قارئة وكررتُ قراءة الاسم المتبوع للنصِ: فوْزي كريم، فوزي كريم، فوزي كريم.
لمن هذا الاسم؟ من هذا الذي يستخدمُ الفعل (انْحدر) بهذا الشكل، المُثير، المحسوس؟
ففتحتُ صفحة البحث، وبحثتُ عن الوجه الذي يقول: "وجهي دائرة فوق الجسر"
عثرتُ عليه. شاعرٌ عراقيّ، سأبحثُ عن قصائده، فوجههُ يُشيرُ أن القصائد تتوالدُ، تتزاوجُ فيه. هكذا عرفتُ فوزي كريم، ودوّنتُ اسمه في دفتر مذكراتي.
في السنوات التي تتالت تباعًا، وقضيتُها في الشّعر وعوالمه، كنتُ أعودُ لفوزي كريم، وأقرأ له ما كتب، ويكتبُ، حتى عثرتُ عليه مرةً يجلسُ بألمهِ في قصيدة، لهُ من العراق الكثير الذي قصمهُ، وله من الحب الوفير، فشممتُ في قصائده روحهُ العطشى للحبّ، ذاك الحبّ القريب جدا منه، البعيد عنه في الوقت ذاته.
كان العراق رمزهُ الخاص الشّعريّ، شكلُ قصيدته النثريّة الطويلة، حكاية سيرته التي ما انْسلختْ عنه في منفاه. كان يسيرُ في شوارع المنفى، واسمهُ المرتبط بالعراق يسيرُ أمامه، الطّفل الذي كانه، يأتيه، محبوسٌ فيه، لم تُغلق في وجهه أبواب الدار القديم، محمولٌ في حقيبة سفره للمنفى، ملفوفٌ في قميصٍ..
"في ذاك اليوم ولدتُ. أبي يحتاط من الفيضان
وأمي في الغيبوبةِ. والحربُ الكبرى توشك أن
تتوقفَ فوق المفترَق الواسعِ للزمنِ المتردي.
نحن الحمقى كنا نكبرُ
دونَ محاذرةٍ، ونلوّحُ للدفلى.."
(من كتابه: قارات الأوبئة)
*
انتبهتُ، والانتباه هو استدراك وملاحظة الفعل المعتاد، إلى أنني لم أتوقف منذ تلك الليلة عن النبش، والقراءة لفوزي كريم، وإن كانت قد تكدست الأسماء، الكتب حولي أكثر فأكثر، وظننتُ أنني قد أكتفي من قراءة فوزي في الشّعر والنثر والنقد، مع هذا بقيتُ أروح جيئة وذهابًا عليه، كان كالقبوِ الضيق، في البيت القديم، الذي ورغم مغادرتك له، ولم يعد يتسع لحجمك، فقد ازددت وكبرت، وطالت قامتك، وستضطر للانحناء حتى تدخله، وعظامُ رقبتك تتفرقعُ وجعًا، إلا أنه ينتظر منك زيارة، وآن تزوره، ستعثر على الأشياء المتروكة سلفًا كما كانت، حتى الريح لم تملك حقًا في تحريك الأشياء، الغبار فقط من كان له نصيب، ستمسحهُ بطرف ثوبك، تُبعدهُ بكفّك، تنفخُ نفخة، وتجلسُ القرفصاء: هذا بيتكَ، عُدتَ، هُنا كنتَ تُخبئ أشياءك الخاصة، بعيدًا عن الأعين، في الظلمة دائمًا.
في كل مرّة أتعرّفُ عليه كأنهُ يجدد نفسه، كان كائنًا يستحدثُ نفسه بطريقة عجائبية، آتيه لأقرأ ما كتب وبي من الكآبة ما بي فأراهُ يُقدّم لي نصًّا كترتيلةٍ للكآبة، أو آخر للحزن، وآخر يمسح على قلبي سوءات الغيابِ. تمنيتُ لو أتيتهُ مرة ولم يقدّم لي غير الفراغ، لكنتُ وجدتُ سببًا لأهجره، وأقول: نفدت كلماته، جفّ النهر، لا ميزة للجسر دون نهرٍ أسفلهُ جارٍ.
*
"هل تُراني ابتعدتُ كثيرًا، فغامتْ ملامحُ ذاك المكانْ؟"
- سطر من قصيدة له في ديوانه: الشّعر زلة لسان.
*
كان يقبضُ رأس الاستعارة، ويؤرجحها يمنة ويسرة، يُشقلبها، فتنشطرُ الاستعارة لعدّة صور، آلاف من الإيحاءات المتناثرة، يخلقُ مكان نص قصيدته، المكان الذي ظلّ حبيسًا في ذاكرته، وإذ تبدو من حينها القصيدة عند فوزي كالمرآة، تنظرُ فيها فتعثرُ على ما افتقدْتَهُ، تفتقدهُ، تحتاجهُ؛ مرآة هواجسهِ.
أكان يكتبُ رثاءهُ دائمًا، مستحضرًا المفقود الغائب البعيد، في شكل قصيدة، صانعًا لغة اغترابه الخاصة، متوجسا في قرارة نفسه من فكرة اغترابه الروحيّ عن وطنه، الوطن الذي حمله في حقيبته للمنفى؟
"سأعودُ غدًا أو بعد غد
وأعيدُ السمك من الحوضِ الراكد
لمياهِ التيار
وغنائي من منفاي إلى الخمارة
يا خمار:
عَريني من وطأة ذاكرتي
عُري الفتيان من وطأة موتاهم
ما أطول درب العودة يا بغداد
ما أعمق رائحة الجلاد ما بين غضونك
ما أطولها سنوات المنفى من دونك
أطمعني ربع القرن
أن أخْتلق بديلا عنك
فهلّ رمادٌ من رأسي.
(من قصيدة: سأعود يومًا)
*
يصيرُ الرثاء نشيدًا جنائزيًا، صاخبًا آن نكتبهُ يا صديقة، ويُحافظ على قُدسيته، وكينونته المرّة الكئيبة آن نكتمهُ في الصدرِ، ونبثّهُ على هيئة قُبلاتٍ متبوعة بدمعٍ مالحٍ، ماهيّتهُ الندم، وصورتهُ الاعتراف بالحاجة للآخر؛ فالغياب وإن حاولنا استساغتهُ، يعلقُ بلزوجتهِ في منتصف البلعوم، لا المياه تدفعهُ للأسفل، ولا تدليك المجرى برأسيّ الإبهام والسبابة لتليين الحركة يُجدي. قُبلات متبوعة بدمعٍ مالحٍ موزّعة على صورة مدسوسة في درج مكتب، مُلتقطة في يوم ماضٍ، رائحته عالقة في الأنف، أو منزوعة من صحيفة ما عادت تُنشر، آثر القلب أن يرميها يومها وفيها صورة لوجهٍ تحامل على فؤادهِ أن يقرّ بأنه يعشقُ حامل هذا الوجه، المعذّب.
يبقى نُواح الرثاء أشبه بصفير ريحٍ، مجرد صفير ممطوط، يمتد لثانية طويلة باردة، ثم ينقطعُ فجأة لتحضر البرودة بكامل ثقلها، وتبرك.
"حلّقتُ دون أن يكون لي جناحان ولا مخالب
فمن أضاء رغبتي بسطوة النسر
وأعطاني مذاق الأفق؟
إني شاعرٌ أسكن في الماضي
وأستلقي تمامًا مثلما كان أبي".
(من ديوان: السنوات اللقيطة)
اقرأ/ي أيضًا: