قد تخطر في بالنا أنواع محددة من المعرفة والعلوم عندما يتعلق الأمر بتفشي الأمراض والأوبئة، مثل الطب والأحياء أو علوم الكيمياء والأدوية، لكن للعلوم الإنسانية دور لا يقل أهمية، كما يوضح المقال المترجم أدناه عن مجلة The Bastion للكاتب والناقد الأدبي الهندي المعروف برامود نايار.
الأوبئة والجوائح هي أزمات إنسانية، ومن الطبيعي أن تكون موضوعًا تهتمّ به الإنسانيات بالقدر الذي تهتم به علوم الطب والبيولوجيا. إن التقليل من أهمّية الإنسانيات والدراسات النقدية في مثل هذه الظروف ليس خطأ وحسب، بل هو افتراض قد يحول دون الاستفادة من الدور بالغ الأهمية للإنسانيات في سبر الجوانب الاجتماعية المتعلقة بهذا الوباء أو أي وباء. وليس أدل على ذلك ربما من حقيقة أن بعض أهم المفكرين في الإنسانيات اليوم، من أمثال جيورجيو أغامبين، وجوديث بتلر، ونعوم تشومسكي، وجان-لوك نانسي، وسلافوي جيجك، تحدثوا كلهم عن وباء فيروس كورونا الجديد وتناولوا بعض القضايا المتعلقة بالوباء المتفشي حول العالم، ما يثبت أن للإنسانيات دورًا مكمّلًا للنموذج الطبّي البيولوجي في "قراءة" المرض.
الأوبئة والجوائح هي أزمات إنسانية، ومن الطبيعي أن تكون موضوعًا تهتمّ به الإنسانيات بالقدر الذي تهتم به علوم الطب والبيولوجيا
ثمة العديد من العناصر المؤسِسة في الإنسانيات، التي تساعدنا على فهم المجتمعات في مرحلة تفشي الوباء أو التعافي منه. تطالعنا في المقدمة بطبيعة الحال النصوص الأدبية والفنون التي عالجت فكرة المعاناة البشرية منذ أقدم العصور. فلن يفوتنا مثلًا أن نلاحظ الاهتمام المتجدد مؤخرًا بأعمال من هذا القبيل، مثل "يوميات عام الوباء" لدانيال ديفو، أو "الإنسان الأخير" لماري شيلي، أو "طاعون" ألبير كامو، وغيرها من الأعمال الأدبية الكوارثية لمارغريت أتوود وستيفن كينغ وجيم كريس (Jim Crace)، وكورماك ماكارثي، والقائمة تطول.
اقرأ/ي أيضًا: نعومي كلاين: فيروس كورونا يمثل الحالة الأمثل لرأسمالية الكوارث
لدينا ثانيًا ما كتب في النظرية الثقافية والنقدية، المكوّن الأساسي في التاريخ الفكري للإنسانيات وما تحوزه من قوّة تفسيرية. بالاعتماد على النظرية الثقافية والنقدية يكون بوسعنا فهم المجتمعات الأكثر ضعفًا وهشاشة إزاء الوباء، أو تلك التي تنتصر عليه، والعوامل الممرضة، وكيفية تشكّلها ومقاربتها وتنظيمها عبر أنماط تفكير ومعالجة محددة. ثمة أيضًا الحقول النظرية في الإنسانيات، مثل الأخلاقيات الحيوية (Bioethics)، والتي تدرس البيئات التي يتفشى فيها المرض وما يرافق ذلك من ممارسات تتسم بالتحيّز والإقصاء، إضافة إلى النظر إلى فئات السكان التي تحظى بسهولة الوصول إلى الرعاية الصحية والطبيّة وتلك المهمّشة المحرومة من ذلك، وغير ذلك من الظواهر الاجتماعية التي يجدر ملاحظتها وتحليلها في زمن الأمراض والأوبئة.
فبعض الأسئلة يجدر طرحها والتفكير بها: هل هنالك أولوية لمعاناة فئة على حساب أخرى؟ كيف يتم الحديث عن الوفيات التي تنتمي لخلفيات اجتماعية أو عرقية أو إثنية مختلفة؟ من هم "الضحايا" الذين يستحقون العزاء؟ (كما تسأل جوديث بتلر في كتابها "أطر الحرب"). هذه الأسئلة وغيرها نجد إجاباتها في تمظهرات أدبية وثقافية، من الرواية إلى الفيلم، ومن الرسوم إلى الميمات على الإنترنت.
ثقافات المرض
في كتابها "How to Have Theory in an Epidemic" تقول باولا تريشلر إن "الوباء ظاهرة ثقافية ولغوية بقدر ما هي ظاهرة بيولوجية وبيو-طبية.. ويلزمنا النظر بدقة إلى اللغة والثقافة والتفكير بعمق بشأن الأفكار المتداولة في خضمّ الأزمة، والاستفادة من ذكائنا وقدراتنا النقدية من أجل مقاربة المسائل النظرية والتفكير بالسياسات ووضع أهداف اجتماعية طويلة المدى". تؤكد تريشلر على أنّ النظرية أحد أشكال "الفطنة" التي تساعدها في تفسير العالم. فعلى المشتغل بالإنسانيات ألا يكفّ عن تفسير العالم، حتى في زمن الوباء، لأنّ العالم "مكان جميل يستحق النضال من أجله" كما يقول إرنست همنغواي، وهذا النضال ضد الوباء ليس متعلقًا بالجهود الطبية وحسب، بل يتعلق أيضًا بالعمل على توضيح التمييز الحاصل بين الناس حتى على صعيد المعاناة، وضروب اللامساواة، والامبالاة.
ففي سياق الوباء تتصاعد حالة من الهستيريا ضد فئة من الناس مقابل تمجيد فئة أخرى؛ فئة ينظر إليها على أنّها سبب الوباء وتفشّيه وأخرى على أنها موضوع الثناء بسبب صمودها في وجهه. وهذه حالة تنسحب تاريخيًا على جميع الأوبئة، من سعار الهوموفوبيا بعد تفشي فيروس نقص المناعة المكتسبة في الثمانينات والتسعينات، وصولًا إلى التنمّر والنكات والميمات وخطاب الكراهية ضد الصينيين اليوم في غمرة وباء كوفيد-19. إن ملاحظة اللغة المستخدمة في الحديث عن "العدوى" و"نقل المرض" وفئات المجتمع "الأضعف" أمام الفيروس، و"الحرب" ضدّ وباء كوفيد-19، تساعد في فهم كيفية التعاطي مع المرض، والنظرة السائدة للعاملين في القطاع الطبي، والمرضى، وحتى الأمم.
المعرفة الاجتماعية والسياسة الحيوية
من المسائل المهمة في زمن الوباء تلك التي ترتبط بالمعلومات والبيانات- جمعها وتخزينها ومشاركتها، سواء عن عدد الحالات، أو اللقاحات المحتملة، أو انتشار المرض، أو الإجراءات العلاجية. وفي الإنسانيات، تعد الإبستمولوجيا الاجتماعية، أي كيف تتوصل فئة من الناس إلى "الحقيقة" وتتقبلها، عنصرًا أساسيًا في كيفية مقاربة الوباء. قضايا الإيمان والخرافة، التفكير العلمي والمعرفة التراكمية، كلها أطر لقراءة الناس في المجتمع لمسألة الوباء وتعاطيهم مع الإجراءات الوقائية والعلاجية المرتبطة بها. هذه الأطر تتكئ على شكل محدد من المعرفة والعقلانية الجمعية، ولا شكّ أن المشتغل بالإنسانيّات معنيّ بكيفية تشكّل هذه العقلانية الجمعيّة في المجتمع.
ففي عصر السوشال ميديا، على سبيل المثال، تكون الثقة (أو عدم الثقة) بالتقارير الإخبارية والمعلومات الطبية وحتى البيانات الحكومية، معطيات تعني أن مفاهيم الشفافية والموثوقية وحتى فكرة "الخبير" قد باتت سياقات لتفسير الوباء. إذ لدينا بيانات طبية يتم تفسيرها وتداولها ودمجها عبر عمليات جمعية من المشاركة والمصادقة، ولذا فإنها موضوع للتفكير النقدي كحالة في الابستمولوجيا الاجتماعية التطبيقية ضمن الإنسانيات.
نعرف الآن، وبفضل أعمال مثل "The Greatest Benefit to Mankind" لروي بورتر، وكتاب "Epidemics and Society" لفرانك سنودن، أن المرض والدواء، والصحة والأوبئة، هي جزء من التغير والتطور التاريخيين لأي مجتمع. فالأمراض المعدية، كما يقول سنودن: "لا تقل أهمية عن الأزمات الاقتصادية أو الحروب أو الثورات أو التغيرات الديمغرافية عند محاولة فهم التغير المجتمعي".
فاليهود والمثليون والفقراء ("الرعاع القذرون" كما كانوا يسمّون في لندن في القرن التاسع عشر)، والعمال المهاجرون ممن لا يستفيدون من شبكة الأمن المجتمعي، هم موضوع للدراسات والتطبيقات البيو-طبية، لكنهم أيضًا موضوع للبحث الاجتماعي لدراسة كيفية تعامل المجتمع مع الفئات المهمشة والأكثر ضعفًا.
من الأمثلة الأكثر وضوحًا على ذلك في سياق الوباء الحالي هي حركة النزوح القسرية الهائلة للعمال من المدن الهندية باتجاه القرى والأرياف، بعد فرض حالة الإغلاق الكامل في الهند بسبب كوفيد-19. والمثال الثاني هو تقرير نشر في مجلة (Boston Review)، بعنوان " Corona Virus and the Politics of Disposability" وكيف أن التمييز الطبقي والعرقي-الإثني قد أفرز تمييزًا على مستوى توزع نسب الإصابة بالفيروس بين فئات المجتمع، إضافة إلى التمييز على مستوى الأولوية في الفحص والخدمات الصحية وما ينجم عن ذلك من فروق في معدلات الوفاة بسبب المرض. وهكذا تصبح الأوبئة موضوعًا للنقاش بشأن "السياسة الجسدية/الحيوية" (Biopolitics) في الإنسانيات، بمعنى ضبط المجتمعات عبر إدارة الجسد الإنساني، أو المجتمع كـ"جسد جمعي"، يمكن أن يكون موضوعًا لعمليات "النبذ" أو "التشويه" أو "الفحص" أو "المعالجة" أو التخلي/الترك (Disposability).
السياسة والعوامل الممرضة
كيف نجحت النيوليبرالية في استثناء أعداد ضخمة من أولئك الذين هم أصلًا في أوضاع هشة، من الحصول على المساعدة الطبية؟ كيف أثرت على الأنظمة البيئية التي يعيشون ضمنها، وما هي البيئات التي تحمل إمكانات توليد المرض والوباء؟ كيف يتم تمثيل المشاكل الطبية التي يعاني منها هؤلاء الناس، وكيف يحصل ذلك؟ هل يجري تجريدهم مما يطلق عليه Vinh-Kim Nguyen "المواطنة الضامنة للعلاج" وهل يحرمون من الحصول على الخدمات الصحية والطبية؟ لقد أظهرت لنا الكوارث المختلفة في العقود الماضية، مثل كارثة بوبال في الهند عام 1984، أن الجرحى والمشوهين والمعاقين ليسوا مجرّد أجساد تخضع للتطبيقات البيو-طبية، بل هي موضوع أيضًا لمسائل قانونية وأخلاقية، وهي مواضيع تناقش ضمن علوم الأخلاقيات الحيوية (Bioethics) ضمن الإنسانيات.
اقرأ/ي أيضًا: جوديث بتلر.. عن التغيير في زمن كورونا
ثم يأتي موضوع سياسات وخطابات الصمود أمام الوباء والصبر عليه. فالأزمة عندما تضرب بمجتمع ما سرعان ما تبدأ الأصوات تتعالى بالثناء على المواطنين وقدرتهم على الصمود أمام المحنة التي يمرون بها والتعافي منها. هذا الثناء والمديح الموجّه للناس وصمودهم يحول الانتباه بعيدًا عن مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها. فما هي الأسئلة الأخلاقية التي يجدر طرحها أثناء ملاحظة ثناء السلطة على صمود مواطنيها بالتزامن مع تخليها عن مسؤوليتها في تقديم ما يلزم لهم؟
في الإنسانيات، تعد الإبستمولوجيا الاجتماعية، أي كيف تتوصل فئة من الناس إلى "الحقيقة" وتتقبلها، عنصرًا أساسيًا في كيفية مقاربة الوباء
لا بدّ أن يكون جليًا الآن، حتى عبر استعراض النقاط أعلاه، دور الإنسانيات الأساسي في مكافحة الأوبئة، وليس ذلك بما يتعلق بالتصدي الطبي للمرض، وإنما بمسائل مرتبطة بالأسئلة الكبرى المتعلقة بالتمثيل، وبلاغيات الحقائق العلمية، والخطابيات الدينية، والأخلاق الحيوية، والأمراض والسكان، وأيديولوجيات الحجر والتقييد، وتمويل الأبحاث، وغيرها من المسائل. إن المرض يستدعي ويجد "لغة" تظهر فيها هذه المسائل وسواها، بشكل أو بآخر. فلغة "الأوبئة" مهمة في كيفية رؤية أو تصديق أو رفض أو استبطان "الحقائق" حول الأمراض والناس والموت. هذه اللغة أساسية في فكّ شيفرة الفيروس، كما هي أساسية في فكّ شيفرة المعاناة من المرض أو مقاومته أو الشفاء منه. ولفهم هذه اللغة، لا بدّ لنا من اللجوء إلى الإنسانيات. فاللغة أيضًا وعاء الوباء.
اقرأ/ي أيضًا: