ليس نتنياهو فقط، وليس فقط دولة الاحتلال، بل في لبنان أيضًا تعجز النخبة عن "إخراج انتخابات". ورغم الفوارق الكبيرة بين طبيعة الدولتين، وبين مؤسساتهما، إلا أن بهتان المفارقة لا يفقدها صفتها الأساسية كمفارقة. لعدة أسباب، فشلت الشعبوية الإسرائيلية أخيرًا في تقريش الشكل الديموقراطي الذي تدعيه، وستفشل دائمًا في ذلك. لكن هذه ليست مفارقة أخرى. المفارقة الأخرى أن أسباب انهيار الشكل الخارجي للديموقراطية اللبنانية يمتد إلى جذور عميقة، تمنع المجموعة الحاكمة اليوم من إخراج مسرحية الانتخابات الهزلية. الانتخابات بحد ذاتها ليست هزلًا، ولكن لا يبدو أن ثمة جدوى من النقاش في ذلك، في بلد غير ديموقراطي. بعد كل شيء، الميثاق الطريف ونظام الاحتكارات الخسيس والحرب الأهلية والتحرير من الاحتلال ومن الوصاية والانكماش في المحاور، وقبل أن نتحدث عن "عقد اجتماعي جديد" حسب تعبير غسان سلامة، ربما يتوجب علينا أن نبدأ قبل ذلك بكثير، وأن نحاول الإجابة على سؤال أساسي.. ما الديموقراطية؟
أسباب انهيار الشكل الخارجي للديموقراطية اللبنانية يمتد إلى جذور عميقة، تمنع المجموعة الحاكمة اليوم من إخراج مسرحية الانتخابات الهزلية
حسب محمد عابد الجابري هناك ثلاث وظائف تاريخية للديموقراطية في العالم العربي. الأولى هي تغيير "البنية الذهنية" العربية. الثانية هي تسهيل الاندماج في المجتمع، أما الثالثة وهي تتقاطع مع ما هو سائد عن الديموقراطي من الناحية النظرية، أي انتقال السُلطة إلى النخب الجديدة.
اقرأ/ي أيضًا: أسباب عراقية للوقوف مع فلسطين
ومن المعروف أن الجابري، رغم عروبيته، كان يقيم وزنًا للخلافات والاختلافات داخل كل بلد عربي، ما يتيح، بعد الاستعانة بوظائفه، التي قد تستدعي شرحًا ونقدًا من كثيرين، استخدامها في كل حالة بأدوات منهجية مختلفة. تحتاج دراسة مثل هذه إلى كراسات عملاقة، ولكن لا يمكن القول إن البنية الذهنية العربية، فيما يتعلق بالديموقراطية كوعي لم تتغيّر.
لقد شهدت البلاد العربية محاولات نهوض مبكرة، في بدايات القرن العشرين وعلى أنقاض الاستعمار، من أجل الدساتير والانتقال إلى الحداثة، قبل أن تجهض هذه المحاولات بسلسلة من الانقلابات العسكرية التي آلت إلى الأشكال الديكتاتورية المعروفة. وبعد هذا الانقطاع، حدث الربيع العربي. ومثلما انقطع لبنان عن التجارب العربية، المتمثلة بثورات الدساتير في بدايات القرن المنصرم وخطى خطوات أخرى، انقطع هو الآخر عن الربيع العربي، وجاءت انتفاضته بظروف مختلفة، وفقًا لبنية ذهنية مختلفة.
وهذا مدخل للنقطتين الثانية والثالثة، حيث إن اندماج اللبنانيين في "مجتمع" بقي قائمًا وفقًا لعصبيات طائفية، سيّرت العملية الديموقراطية، وكانت شرطًا أساسيًا ومباشرًا لإنتاج السُلطة. لم يكن هناك تطور باتجاه الوعي الديموقراطي، في وقت تأخر الحديث عن هذا الوعي، وهذا يعني أن المأزق الأساسي ما زال قائمًا، وأن المآزق الصغيرة نشأت حوله، وأنه لا يوجد "إرادة عامة" واضحة، لكي تساجل الديموقراطية في شروطها وآلياتها.
اندماج اللبنانيين في "مجتمع" بقي قائمًا وفقًا لعصبيات طائفية، سيّرت العملية الديموقراطية، وكانت شرطًا أساسيًا ومباشرًا لإنتاج السُلطة
لا يلغي ذلك أن التصورات التقليدية للديموقراطية، ولا سيما الأكاديمية منها، التي تفترض وجود نزعة "طبيعية" نحو الخير، يؤهل الأخير لأن يكون جوهرًا للإرادة العامة، القابلة للتمثل في عملية ديموقراطية، هي تصورات مربكة بحد ذاتها. فهذا الافتراض تعرض لانتقادات كثيرة، ولا سيما أن المصالح الفردية متضاربة دومًا، حتى من ضمن قراءة أكثر حداثة للصراعات الطبقية ومصالح الطبقات.
اقرأ/ي أيضًا: أبناء الإمبراطوريات السخيفة
إلى ذلك، فإن الحديث عن "إرادة عامة"، يجب أن يأخذ بالاعتبار أن هذه الإرادة يمكن أن تكون حصيلة السياسة، وليست محركًا لها. ومن شأن الفكرة الأخيرة أن تزعزع تصورات وأفكار يوتوبية عن الديموقراطية، خاصة في بلد مثل لبنان. فقد وجدت الأحزاب السياسية في لبنان باكرًا، وكانت هناك علاقة "صحية" بين الدستور والديموقراطية، لكن سرعان ما فقدت الأحزاب صفتها السياسية، أو القشرة السياسية، وتراجع النضج الديموقراطي خلال فترات متعاقبة، ما صعّب تنظيم إدارة المصالح السياسية على قدر معين من الشرعية. ليس الإطار العقلاني اليوم هو المحدد لقدرة كل حزب سياسي على الحصول على شرعية عامة، أو شرعية مستمدة ديموقراطيًا، أو ضمن الإطار العقلاني حسب التعبير الفيبيري. وإن كان الهدف من الديموقراطية هو التصدي للعنف، وتسهيل عملية انتقال السلطة، فالنظام اللبناني ليس ديموقراطيًا بأي شكل من الأشكال.
ثمة علاقة متوترة بين الدستور وبين الإرادة الشعبية، لكن ليست هذه هي المشكلة بالتحديد في نطام يدّعي الديموقراطية مثل النظام اللبناني. ربما يتقاطع مع جزء من المشكلة متمثل بتعطيل الدستور تحت ذريعة منتج غير ديموقراطي، قوامه النواب والوزراء ومديرو الدولة وأصحاب المصالح الاقتصادية الكبيرة، ومن يشكلون معًا نخبة حاكمة. فشروط التمثيل بالنسبة للجماعات، ليست النزاهة والكفاءة، وتاليًا ليست الخير العام. ولا يعني ذلك عدم وجود نخبة، لما قد تستدعيه النخبوية من حساسيات تتراوح بين صفتين "العامة" و"الشعبوية". فالنخبة الموجودة في لبنان لا تقوم على شروط ديموقراطية، بل على شروط أخرى، تعيد البحث في الشرعية إلى النقطة الأساسية، وتنزع عنها صفة العقلانية، إلى درجة تكاد تكون فيها شرعية تقليدية وكاريزماتية ولكن بغلاف عقلاني، الانتخابات ليست سوى شكلًا مملًا لإخراجه.
يتقاتل زعماء الطوائف اليوم على التلويح باستقالة موظفيهم، أي "النواب"، ولكنهم لا ينوون الاستقالة فعلًا، لأن حضورهم في البنى الاجتماعية أقوى بكثير من الحديث عن الاستقالة. يتصرف هؤلاء، كما لو أنهم في نظام ديموقراطي فعلًا، وكما لو أنهم يصدّقون أنفسهم.
تجبرنا هذه الخلاصة على عدم التهرب من الإجابة على السؤال الرئيسي لهذا المقال: ما الديموقراطية؟ والاجابة، موجودة في أعمال كثير من الباحثين العرب على أي حال، مثل عزمي بشارة وبرهان غليون وعبد الإله بلقزيز وغيرهم.
إن كان الهدف من الديموقراطية هو التصدي للعنف، وتسهيل عملية انتقال السلطة، فالنظام اللبناني ليس ديموقراطيًا بأي شكل من الأشكال
اقرأ/ي أيضًا: في رأس نتنياهو
الديموقراطية ليست تمثيلية حول الصناديق، بل هي وعي طويل. إنها احترام الدستور أيضًا، الذي لديه مهمة وجودية، تقتضي بتوزيع الصلاحيات، على قاعدة "حقوق/ واجبات"، وبالتالي يمنع الاستئثار بالسلطة، في حال سلم من التخريب والالتفاف. وهي حرية التعبير، التي يمكن شرحها، من دون أن تبقى شعارًا مطاطًا، ويمكن تحديدها في اتجاهات معينة، مثل الصحافة والبحث الأكاديمي والحقوق الفردية الجنسانية وغيرها، إن كان ذلك على المستوى الفردي أم الجماعي. ولا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية، من دون الحق في التعددية، وليس المقصود هنا التعددية الاثنوغرافية أو الطائفية، التي تقوم على "أمر واقع"، بل على الحق في تبني خيارات سياسية متنوعة من خارج الأيديولوجيا المهيمنة (كالاشتراكية الواقعية في العالم العربي، أو صيغ أقل جدية مثل صيغة شعب – جيش – مقاومة اللبنانية). الديموقراطية تعني التمثيل الصحيح، لأنه يلعب دورًا في تحديد العلاقة بين الدستور كأداة، وبين الشعب. وفي حال احترمت المؤشرات الديموقراطية، يمكن الحديث عن تداول سلطة، وعن معنى للانتخابات. وقد اكتشف النواب اللبنانيون ذلك بأنفسهم قبل أعوام، عندما مددوا لأنفسهم، من دون انتخابات، ولم يتغيّر أي شيء. مفارقة أخرى وأخيرة: محاولات الظهور بصورة "ديموقراطية" ليست ضرورية لكل هؤلاء لاكتساب السُلطة، لكنهم يصرّون على ذلك. يجعلون المشهد طريفًا رغم شدة الكآبة المحيطة بنا.
اقرأ/ي أيضًا: