في بداية الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، ظنّ الكثيرون منا أنّ القصف الذي طال مستشفى المعمداني، والذي ذهب ضحيته ما يقارب 500 شهيد، هو أقصى ما يُمكن أن يحدث.
وأمام تلكَ الجريمة، وقف العقلُ لدينا مستنكرًا وعاجزًا عن تصديقها، كنا نفكّر بأنّ هذه الجريمة التي اهتزّت لها مكامن آدميتنا هيَ شيء طارئ وعابر، غير قابل للتكرار، ولا يُمكن أن يحدث إلا مرّة واحدة.
ما لا يُصدقه العقل هو أنّ تلكَ الجريمة لم تتكرر فقط، بل تحوّلت إلى سياسة واستراتيجية ثابتة في الحرب الإسرائيلية على غزة، وليست هذه الجريمة هي الجريمة الوحيدة التي تندرج تحت العنوان العريض لما لا يُصدقه العقل، فقد توالت جرائم الاحتلال وتعددت وتنوعت، حتى بات من الصعب حصرها وإحصائها.
أوردَ الكاتب الفلسطيني مجد كيال منشورًا على "فيسبوك" عقّب فيه على الجرائم الإسرائيلية المروعة في غزة وقال: "الأكيد الذي يجب أن يبقى نصب أعيننا أننا مهما تابعنا الأخبار بهوس، وقرأنا وشاهدنا واستمعنا وتخيّلنا، فإننا لا نعرف مثقال ذرّة من أهوال الإبادة الجاريّة في غزّة. الفاجعة العُظمى التي نراها "ولا يصدّقها العقل" ليست إلا نقطة في بحر التفاصيل المرعبة التي لن ندركها مهما عشنا، ولن يدركها إلا من عاشها".
في التحليلات السياسية والنشرات الإخبارية، توالت التوصيفات والنعوت التي جاءت لتُخبر عن هذه الجرائم التي لا يُصدقّها العقل، لتتحدّث عنها، ولتروي ما فيها من وحشية وخروج عن كلّ آدمية باقية في الكائن الإنساني، قيلَ عنها "جرائم وحشية"، "جرائم مروعة"، "جرائم ضدّ الطبيعة البشرية"، "جرائم يندى لها جبين الإنسانية".
تَعددت النعوت والتوصيفات لهذه الجرائم، لكنّ جبين الإنسانية الذي تعرّق ورشح خجلًا وعارًا منها، كان قادرًا على مسح عرقه ورشحه في كلّ مرة، ليُعاود جلوسه متفرجًا عليها وهي تُعاود نفسها وتكررها في حلقة لانهائية مفتوحة، ليَعودَ هوَ فيندى لها من جديد.
إنّ الجريمة الإسرائيلية في غزة لها صبغة تكرارية تُشبه فكرة "العود الأبدي" عند نيتشه، فهيَ تظهر وتتكرّر المرة تلو الأخرى، ولا تجد من يقف أمامها، أو يردعها، أو يُوقفها.
لم تكن الطفلة هند حمادة أولى الطفلات التي يتمّ ارتكاب جريمة الإعدام بعائلتها أمامها ثمّ يُفقد الاتصال معها، ولم تكن جثامين 30 شهيدًا هي أولى الجثامين المتحلّلة التي يتمّ انتشالها مكبلّة الأيدي ومعصوبة الأعين في مدرسة شمال غزة، مئات الإعدامات الميدانية تمّ ارتكابها بعائلات كاملة قبل عائلة هند، ومئات الجثامين المتحللة التي تمّ انتشالها قبل هذه الجثامين، من تحت أنقاض البيوت، ومن الطرق والشوارع والمستشفيات.
كانت هناك أسيرة فلسطينية من غزة تروي قصة الإفراج عنها، وتُحدّث بأنّ قوات الاحتلال أنزلوها هي وغيرها من الأسرى والأسيرات المزمع الإفراج عنهم، وطلبوا منهم أن يركضوا بأقصى ما أوتوا من سرعة، وأخبروهم بأنّ من يتباطأ يُعرّض نفسه لخطر الموت وإطلاق النار. ذكرتني هذه الرواية بقصة "كان يومذاك طفلًا" التي وردت في كتاب "أطفال غسان كنفاني" وتحكي عن طفل فلسطيني يكون شاهدًا –إبان مرحلة النكبة- على استشهاد جميع ركاب الحافلة التي يركبها، بعد أن قامت دورية من الجنود الصهاينة بقطع الطريق عليهم، حيثُ يستثنيه القائد من جريمة القتل الجماعية، ويعود إليه ويطلب منه أن يجري بأقصى سرعة، فيما يبدأ هو بالعدّ من واحد إلى عشرة، ويُخبره بأنّ عليه أن يختفي عن الأنظار قبل أن يتمّ العدّ وإلا فإنّه سيوجّه نحوه سلاحه ويقتله.
رواية الأسيرة وقصة غسان كلتاهما تدخلان في تصنيف ما لا يُصدقه العقل، الأولى شهادة واقعية، والثانية قصة أدبية، لكنّهما تتقاطعان في تصنيفهما وتتشابهان فيه، وتأتيان كتأكيد حتمي أنّ ما قد لا يُصدقه العقل عن جرائم الاحتلال في القصص، يُثبته الواقع بشهاداته وشهوده.