يبدو أن ثمّة شيئًا استثنائيًا من ضمن الأشياء الخفيّة فينا نحن معشر البشر، شيء يتمثّل برغبة خفيّة على الرغم من مركزيّتها، وهي الرغبةُ بأن نُترك، بأن نكون على مسافة من الجميع، بأن ننزوي وننفصل عن ملامح الوضوح في المشهد. لعله أمر ينمّ عن رغبة بأن نقف هناك لمجرد الوقوف، ولغايته. لربما هو رغبة استثنائية وملحاحة بأن نُترك ونُهجَر، بأن نُنسى على تقاطع طرق دون معرفة أي اتجاه نسلك، أو، وهنا الاحتمال أسوأ، دون معرفة من سيسلك نحونا. ثمة فائض رغبة خفيّة بأن نضيّع أنفسنا عن أنفسنا داخل أنفسنا، دون أي تلميح إلى من سيأتي لاحقًا كي يسأل، أو أي تلميح إلى من سيمارس أي رغبة أو فعل من أفعال الاستفسار.
ثمّة رغبة فينا نحن معشر البشر بأن نضلّ الاتجاه، فتُضاف إلى تلك الرغبات التي ترتبط بشيء قابع هنا، في الداخل، لتُمارَس في السر من دون رقابة ولا قبول، حيث تُركن لتُمارَس وتتكاثر في الخفي والعصي على الإباحة. شيء يدعونا لأن نعيد تجربة الهجر، مرارًا وتكرارًا، وإن كانت بشعور مماثل ومكرَّر، وإن كانت بشعور يحمل القدرة ذاتها على النفور من الألم في كل مرة.
ثمة شيء يدعونا لأن نعيد تجربة الهجر، مرارًا وتكرارًا، وإن كانت بشعور مماثل ومكرَّر، وإن كانت بشعور يحمل القدرة ذاتها على النفور من الألم في كل مرة
لربما يعود سبب ذلك إلى أن الهجر هو إحدى الطرق السريعة، والوحيدة، والأكثر منطقية، لكي يُعاد فعل إيجادنا باستمرار، لكي يُعاد فعل إعادة اكتشافنا من جديد. هو فعل يَضمُر شرط شروط إتيان أحدهم لكي يُدرِك مكاننا، وزماننا، وسياقنا، دون أن نطلب ذلك، دون أن نسأل أو أن نستجدي، ودون أي تلميح أو ملاحظة أو حتى إشارة، وإن بالمواربة. أو لعلنا نمتلك ما يكفي من نزوع داخلي، وحاجة عصيّة غير مفهومة لتأدية دور الضحية، لتأدية كافة مهام عدم الاكتفاء من الكف عن إعادة البكائيات بشكل مستمر، وعلى القدر ذاته من الإصرار والأصالة، والصلابة في الإصرار على التكرار. إلا أن هناك ما يقبع في دواخلنا دون أي حركة، دون أي تبدّل أو تلاشٍ، يتحدى العوامل كافة، لربما هو شعور مكثّف يتمحور حول فعل الرأفة بحالنا، فندرك بذلك شعورنا بالشفقة على أنفسنا، أو لربما قد نجد وقتها من يرأف ويشفق بنا، وعلينا، وعلى حالنا. لعلنا بحاجة لأن نستدعي رأفة بعض العابرين الجدد بنا، وبكل الهجر الذي مر في التاريخ الحافل بتكرار المأساة والمهزلة بالاحتمالات الممكنة كافةً.
ثمّة ما هو خفي وقابع تحت الجلد، وما بين الأوردة، يمتد هناك كي لا يكفّ عن الظهور بكل الأشكال المَرَضيّة الأولية المتاحة. ماهية غير متعيّنة لكنها تصبح شرطًا من شروط أي معنى وكل احتمال. ماهية تنتفض دون أي مقدمات ولا حتى استئذان، ولا حتى طلب مغفرة. فالحالة المرَضيّةُ هنا ليست، ولا تأتي بالضرورة، بشكلها المَرَضيّ، ولا تترافق مع أعراض جانبية ظاهرة للعيان. بل ثمّة صحة تقبع في مغبّة أن يركن النزوع المرضيّ، الذي يهيمن على سيرنا في حيواتنا، بطريقة من الطرق، بمستوى من المستويات. فلطالما كان هناك ما هو إيجابي في كل هذا الحطام، وفي كل هذه العجرفة المرافقة له كظلّه، وإن لم نتلقفها حتى اللحظة، وإن لن نتلقفها أو نطوي الزمن عليها في المستقبل.
لربما هو شيء إيجابوي سرعان ما يحوّل هذا الإقرار بالصحة، فيجعل منها الطريقة الأسرع والأمثل لكل تأسيس للحالة، لأي حالة، تأسيس لكل حالة بهدف واحد وحيد هو أن تكون راضية، أن تنال استحسان ومصارحة ذاتها لذاتها، أن تتظهّر بأنها مجرد تلقّف جديد لشعور قاصر تجاه ذاتها، تلقف مبني على مثالية متخطية قابعة في مكان آخر مفارق، فتصبح ماهية تداعٍ تام من دون أي زيادة ولا نقصان. إذ كلما حاولت تلك المثالية الاقتراب منّا إلينا، بمجهودنا وبتعبنا، بكل هنّات القلق الذي ينتابنا، كلما انطبقت الحالة المَرَضيّة أكثر، فانطوت الحالة على حالتها وأطبقت عليها أكثر، معلنةً عن توغلها، وبخطى ثابتة، في ثنايا ذاك النزوع الخفي والمستتر والمضمر بشكل لا عودة عنه.
ثمّة شيء خفي يعبِّر أحيانًا عن نفسه بفعل إيحائي في سلوكياتنا، فيقرّ بأن الإباحة نفسها فعل استتار، وأن فعل الفعل يعلن دومًا عن نفسه من دون أي تضعضُع خلال ملاحظة أن الشعور نفسه مجرد انسياب وسيل لا متعيّن، لا معنى له بين المعاني، بل هو عصف وسيلان مستمر خارج المعنى، فيض من الكثرة التي لا إمكانية ولا قدرة لها على النضوب.