في أواخر شهر أغسطس/آب الفائت، ركب إيلون ماسك سيارته من طراز إس (S) خارج المقر الرئيس لشركة تسلا في بالو ألتو، وما لبث بعدها أن اختار مكانًا عشوائيًا على شاشة نظام الملاحة في السيارة، وترك السيارة تمضي وحدها معتمدةً على تقنية القيادة الذاتية الكاملة. ولم يغفل ماسك عن إمتاع نفسه طوال مدة رحلته القصيرة التي استغرقت 45 دقيقة، فاستمع إلى موسيقى كلاسيكية للموسيقار النمساوي موزارت، في حين بثّ وقائع رحلته للجمهور مباشرة، ومنها مروره بمنزل مارك زوكربيرج- الرئيس التنفيذي لشركة ميتا- الذي سبق أن تحدّاه ممازحًا للقتال داخل قفص، وقد قال ضاحكًا قبل أن تتابع السيارة طريقها: "ربما حريّ بي أن أطرق بابه وأسأله إنْ كان مستعداً للعراك بالأيدي".
في السابق اعتمد نظام القيادة الآلي في سيارات تسلا نهجًا أساسُه الالتزام بالقواعد، لكن الآن يتم التعويل على شبكة عصبية تتعلم القيادة من ملايين الأمثلة التي تعرض تصرفات البشر عند قيادة سياراتهم
ولا ريب أنّ ماسك استخدام تقنية القيادة الذاتية الكاملة (الآلية)- تعرف اختصارًا بمصطلح إف إس دي (FSD)- في مئات الرحلات السابقة بسيارته، بيد أنّ هذه المرة مغايرة تمامًا لما حدث من قبل؛ فالفارق بين هذه الرحلة وسابقاتها لا يقتصر على سلاسة القيادة وموثوقيتها التي بدت أفضل بكثير مما مضى، وإنما يتجلّى كذلك في الإصدار الجديد من تقنية القيادة الذاتية الكاملة المعروف باسم FSD 12، فهذا الإصدار يتميز بأنّه يتبنى مفهومًا جديدًا وثوريًا قادرًا على تطوير تجربة المركبات الذاتية القيادة تطويرًا كليًا، فضلًا عن تحقيق طفرة في استخدام الذكاء العام الاصطناعي، الذي يؤدي وظائفه ويستجيب للمواقف التي يصادفها في العالم الحقيقي.
والمقصود بهذا الكلام أنّ هذا النظام الحديث والمتقدم لم يعتمد على مئات الآلاف من أسطر الأكواد البرمجية- مثلما فعلت الإصدارات السابقة من برامج القيادة الذاتية- وإنما تعلّم القيادة بمعالجة مليارات الإطارات من الفيديوهات التي تُوضّح طريقة قيادة البشر للسيارة، فهو بهذا العمل إنما يحاكي روبوتات الدردشة الآلية في نماذج اللغة الضخمة، التي تعالج مليارات الكلمات من النصوص البشرية لتدريب نفسها على توليد الإجابات للمستخدمين. والمثير للدهشة حقًا أن ماسك أدخل هذا النهج الجديد الثوري إلى سيارات تسلا الكهربائية قبل ثمانية أشهر فقط.
وسبق لِـ دافال شروف (Dhaval Shroff)، وهو عضو شاب في فريق نظام القيادة الآلية في شركة تسلا، أن شرح هذه الفكرة على طريقته حين قال لماسك في اجتماع سابق: "هذا النظام شبيه بروبوت تشات جي بي تي (ChatGPT)، لكنّه مخصص للسيارات". وقال شروف كذلك: "إننا نعالج كمية ضخمة من البيانات التي تستعرض طريقة تصرف سائقين بشريين حينما تواجههم مواقف معقدة وشائكة في أثناء القيادة، ثم نعمد بعدها إلى تدريب الشبكة العصبية للحاسوب حتى يحاكي تلك التصرفات".
وفي السابق اعتمد نظام القيادة الآلي في سيارات تسلا نهجًا أساسُه الالتزام بالقواعد؛ فكاميرات السيارات كان تلتقط وتحدد علامات الممرات والمشاة والمركبات والإشارات المرورية، على أن يُطبق برنامج النظام بعدها مجموعة من القواعد التي تتضمن مثلًا: الوقوف عند الضوء الأحمر، والانطلاق عند الضوء الأخضر، والسير في المنتصف بين علامات الطريق، والتريث في التقاطعات للتأكد من خلو الطريق من سيارات شديدة السرعة وهلّم جرا. وبطبيعة الحال تولى مهندسو شركة تسلا كتابة هذه الأكواد البرمجية يدويًا، بلغة C++، لتطبيق القواعد في مواقف القيادة المعقدة.
في المقابل اتّبع "مخطط الشبكة العصبية"، الذي أشرف عليه "شروف" ومهندسون آخرون، نهجًا مغايرًا كليًا، ويقول شروف عن ذلك: "إننا لا نستخدم القواعد لتعيين المسار الصحيح للسيارة في رحلتها، وإنما نحدده بالتعويل على شبكة عصبية تتعلم القيادة من ملايين الأمثلة التي تعرض تصرفات البشر عند قيادة سياراتهم، وهنا يتأتى القول إنّ النظام الجديد يقلّد البشر حقًا! فعلى سبيل المثال، عندما يواجه نظام القيادة الآلي في السيارة موقفًا معينًا، فإنّه يختار مساره تبعًا لتصرفات السائقين البشر في حالات مشابهة، فالأمر مماثل تقريبًا للطريقة التي يتعلم بها البشر أمورًا عديدة في حياتهم، مثل التحدث والقيادة ولعب الشطرنج وغيرها؛ فالآخرون يزودوننا بقواعد عامة نتبعها، لكننا نكتسب بأنفسنا المهارات اللازمة حينما نراقب تصرفات الآخرين وأفعالهم.
وهذا النهج في موضوع تعلم الآلة هو الذي تصوره آلان تورينج في ورقته البحثية التي نشرها عام 1950 بعنوان "أجهزة الحوسبة والذكاء"، ومن نافل القول إنّ الرأي العام ضجّ بهذه الورقة العلمية عند إصدار روبوت المحادثة الآلي تشات جي بي تي.
وكان مشروع مخطط الشبكة العصبية قد أنهى في مطلع العام الحالي تحليل 10 ملايين فيديو جُمِعت من سيارات عملاء شركة تسلا، وهنا لا بد من التساؤل: هل تكون القيادة في النظام الجديد بجودة السائقين البشر متوسطي المهارة؟ ويجيب شروف عن السؤال: "كلا، لأننا لا نعتمد البيانات الواردة من السائقين إلا حينما يحسنون القيادة في المواقف الشائكة". واستعانت الشركة بفريق من الاختصاصيين لمشاهدة الفيديوهات وتقييم السائقين بالدرجات، وحثّهم ماسك كذلك على الالتفات للأفعال التي لا يأتي بها إلّا سائق بارعٌ وحذقٌ من سائقي شركة أوبر، فكانت تلك الفيديوهات المكرّسة لتدريب الحاسوب.
ولا ريب أنّ ماسك أشرف بنفسه على عمل فريق نظام القيادة الآلية، بل ولازم المهندسين لإجراء مناقشات مثمرة ومرتجلة، واللافت للاهتمام أنّه حينما ظل يتابع هذا النهج الجديد الذي يحاكي التصرفات البشرية، ما انفكّت تراوده أسئلة كثيرة: فهل من حاجة حقيقية لهذا النظام الجديد؟ أليس فيه بعض المبالغة؟ فمن المعروف عن ماسك إيمانه بمسلّمات راسخة منها ضرورة إنزال كل شيء منزله الصحيح؛ فمن ضروب الحماقة استخدام صاروخ لقتل ذبابة حينما تكفينا المِذبّةُ هذا العناء، فهل كان استعمال الشبكة العصبية أمرًا معقدًا دونما أي مسوغ؟
في هذه المرحلة ضرب شروف لماسك بعض الأمثلة التي تبين بجلاء أن مخطط الشبكة العصبية أمثلُ طريقةً من نهج القواعد السابق، وتضمن المثال التوضيحي طريقًا تتناثر فيه صناديق القمامة والأقماع المتساقطة والفضلات والحطام العشوائي، وقد نجحت سيارة تسيلا الموجهة بمخطط الشبكة العصبية في الالتفاف حول تلك العوائق كلها، والسير خارج نطاق خطوط الطريق وخرق بعض القواعد المروية عند اللزوم. ولمّا انتهى هذا العرض، قال شروف لماسك: "هذا الفرق حينما ننتقل عندما تعتمد السيارة على مسار يحدده مخطط الشبكة العصبية بدلًا من مسار يحدده نهج القواعد. فالسيارة لن تصطدم مطلقًا إذا شغّلنا هذا النظام، وإن كانت بيئة القيادة غارقة في الفوضى".
مشروع مخطط الشبكة العصبية قد أنهى في مطلع العام الحالي تحليل 10 ملايين فيديو جُمِعت من سيارات عملاء شركة تسلا
ويسعُ القول هنا إنّ هذه الطفرة التكنولوجية أثارت حماسة ماسك كثيرًا، فقال: "يتعين علينا أنّ نستعرض قدرات السيارة بأسلوب جيمس بوند؛ فنسير بها في طريق تنهمر عليه القنابل، وتتساقط أجسام غريبة من السماء، في حين تمضي بسرعة دون الاصطدام بأي شيء".
وعلى العموم يلزم أنظمة تعلم الآلة وجود مقياس يرشدها في أثناء مراحل تعلمها، ومعروف عن ماسك تعويله في الإدارة على تعيين المقاييس الأهمّ من غيرها، وهو إلى ذلك قدّم المقياس المفيدة للنظام الجديد على أنّ يكون عدد الأميال التي قطعتها السيارات باستخدام نظام القيادة الآلية دون تدخل البشر، ثم سرعان ما تحدث لطاقم المهندسين والموظفين قائلًا: "أريد منكم تجهيز أحدث البيانات المتعلقة بعدد الأميال مقابل تدخل السائق، على أنّ تكون أول الأمور التي نستعرضها في جميع اجتماعاتنا"، وأخبرهم ماسك كذلك أن يعاملوا الموضوع معاملة ألعاب الفيديو التي يرغبون بتتبع نتائجهم اليومية فيها، وأضاف: "ألعاب الفيديو الخالية من نتائج نتتبعها مملة حقًا، فمن المحفز لنا أن نرى عدد الأميال التي تقطعها السيارة دون تدخل بشري".
وهكذا ثبّت أعضاء الفريق شاشة ضخمة في مواقع العمل حتى تعرض مباشرة عدد الأميال التي تقطعها السيارات في المتوسط عند تشغيل نظام FSD دون أي تدخل من السائقين. كذلك وضعوا جرسًا على مقربة من مكاتبهم، فكلما استطاعوا تجاوز مشكلة أو عائق تسبب في تدخل السائق، قرعوا ذلك الجرس على الفور.
وبحلول أواسط شهر إبريل/نيسان من العام الحالي، آن الأوان لتجربة مخطط الشبكة العصبية الجديد، فجلس ماسك في مقعد السائق وبجواره أشوك إلسوامي، مدير برنامج الطيار الآلي في شركة تسلا، وفي الخلف جلس ثلاثة أعضاء آخرون من البرنامج. وتهيأ الركاب جميعًا لمغادرة مصفّ السيارات في مقر شركة تسلا، ثم اختار ماسك موقعًا على الخريطة حتى تمضي السيارة إليه، وتركها تسير وحدها.
ولمّا انعطفت السيارة إلى الشارع الرئيس، واجهت العقبة الأولى في طريقها؛ إذ اتجهت إليها دراجة هوائية مسرعة، وهنا افسحت لها السيارة المجال، مثلما يفعل السائق.
وطوال الدقائق الخمس والعشرين التالية، مضت السيّارة في الطرق السريعة وشوارع الأحياء، وانعطفت بسلاسة في المنعطفات الشائكة وتجنبت راكبي الدراجات والمشاة والحيوانات الأليفة، ولم يلمس ماسك المقود بتاتًا طوال المدة، ولم يتدخل إلا في مرات قليلة لزيادة السرعة حينما ظنّ السيارة بالغت في قيادتها الحذرة. وفي مرحلة معينة من هذه الرحلة القصيرة، ناورت السيارة مناورةً أذهلت ماسك ودفعته للإقرار بعجزه عن مضاهاتها، وقال: "أبلت السيارة بلاء حسنًا في موقف كنتُ لِأخفق في تجاوزه بهذه البراعة".
ولا شكّ أنّ ماسك أعجب بهذا العمل أيّما إعجاب، فقال: "أحسنتم صنعًا جميعًا. إنّه مثير للإعجاب حقًا"، ثم ترجّل الجميع وذهبوا إلى الاجتماع الأسبوعي لفريق برنامج القيادة الآلي. وهناك جلس 20 شخصًا حول طاولة الاجتماعات يترقبون قرار ماسك النهائي، وكثير منهم مرتاب في نجاح مشروع الشبكة العصبية الجديد، بيد أنّ ماسك بادرهم بالقول إنّه مؤمن بهذا المشروع ونجاحه، فما عليهم الآن إلّا بذل الجهود والموارد للمضي قدمًا.
ومع ذلك أولى ماسك طوال أوقات النقاش عنايةً فائقة بنقطة جوهرية اكتشفها الفريق؛ فالشبكة العصبية لم تُحسن العمل إلا حينما دُرِّبت على فيديوهات يزيد عددها عن المليون، وهذا الأمر يعطي تسلا، ولا ريب، أفضلية بارزة على شركات السيارات والذكاء الاصطناعي الأخرى، فلديها قرابة مليوني سيارة تجمع الفيديوهات يوميًا، وقال إلسوامي في الاجتماع: "إننا في وضع مميز يؤهلنا لتنفيذ المشروع".
وما هي إلّا أربعة أشهر فقط، حتى أصبح النظام الجديد جاهزًا لاستبدال نظيره السابق بنهجه القديم، وتحول اسمه إلى FSD 12، ومن المقرر أن تستخدمه تسلا في سياراتها حالما تحصل على موافقة الهيئات الناظمة. وتظلّ أمام الشركة مشكلة ينبغي لها التخلص منها؛ فالسائقون يتحايلون على القوانين المروية، وهذا النظام الجديد يحاكي تصرفاتهم، بحكم تصميمه. فعلى سبيل المثال، تُحرّك نسبة قدرها 95% من السائقين سياراتهم ببطء شديد عند الإشارات المرورية بدلًا من إيقافها عن الحركة. ومن هذا المنطلق يقول رئيس المجلس الوطني للسلامة على الطرق السريعة إنّ الوكالة بصدد دراسة هذا الأمر، وتحديد إن كان مسموحًا للسيارات الذاتية القيادة.
هذا المقطع مقتبس من كتاب سيريّ بعنوان: إيلون ماسك (Elon Musk) للمؤلف والتر إيزاكسون، صدر مؤخرًا عن دار "سيمون أند شاستر"