قبيل الفجر وبينما يستعد الكون لاستقبال أشعة الضوء الأولى، يُشغّل صديقنا قائمته التي تضم العديد من المقاطع الصوفية ليبدأ مقطع للدكتور عدنان إبراهيم بصوته المألوف قائلًا "أكاد أقسم من على منبر رسول الله أنه لا ينزع منازع العنف والتطرف والقسوة إلا إنسان ملوث؛ إما ملوث خلقيًا، إما ملوث عقليًا، أو ملوث عقديًا. لا يمكن إخواني وأخواتي -وفكروا بهذا بالله عليكم- لمن دنا من الله، لمن اقترب من الله ، لمن كان من أهل الله أن يكون إنسانًا عنيفًا وفظًا. ثم يتلو الآية "ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك". ثم يختتم مقطعه المؤثر بقوله "الإسلام عندي يساوي إنسانية كاملة، بمقدار نقص إنسانيتك ينقص إسلامك، فيستحيل أن تكون إنسانًا صالحًا ومسلمًا فاشلًا".
هكذا يرتبط في وعي معظم المؤمنين حُسن الإيمان بأن يكون الإنسان خيّرًا ومحبًا للإنسانية وبعيد كل البعد عن التطرف والعنف، ذلك لأن الحفاظ على تماسك المنطق الإيماني يعتمد في كثير من الأحيان على الاحتفاظ بتلك العلاقة الطردية بين عمق الإيمان والنزعات الإنسانية المحبة للخير والمودة. لكن كيف يستقيم هذا المنطق وكيف يحافظ على تماسكه في مقابل معطيات الواقع، والتي أصبحت كثيرًا ما تهدد ذلك التماسك والانسجام؟
تقوم الديانات التوحيدية في الوعي الجمعي على أساس إقصائي، فكل ديانة تقصي الأخرى حتى تستحق مكانتها الراسخة في نفوس معتنقيها
يقوم هذا المنطق على اعتبار رئيس هو الاعتقاد بأن للقرآن تأثير أخلاقي مباشر على كل من يتبعه، فيتحول من الشر الكامن في ضمير الإنسانية إلى خير وصلاح بتأثير التعرض للقرآن وتشرب روحه وبيانه، وفي الحقيقة فإن هذا التصور هو ما يريده المتدين أكثر مما يعبر عن الحقيقة، أو حتى يقترب منها، ولفهم هذه الجدلية بصورة أوضح يقفز إلى الذهن مباشرة السؤال صاحب المركز المتقدم في سباق الفكر الإسلامي، وهو السؤال عن جدوى الخطاب القرآني إن لم يكن مبدئيًا قادرًا على تحويل بقايا تلك الشرور في النفس البشرية إلى خير وصلاح!
اقرأ/ي أيضًا: عمرو خالد.. خارجًا من فيلم إباحي
تقوم الديانات التوحيدية في الوعي الجمعي على أساس إقصائي، فكل ديانة تقصي الأخرى حتى تستحق مكانتها الراسخة في نفوس معتنقيها، ومن هنا تظهر تلك الرغبة التي تتحول في نفوس المؤمنين إلى حقيقة تتمثل في اعتبار عقيدتهم سلاحًا رئيسًا للخير في معركته الملحمية ضد الشر وإن لم يكن السلاح الأوحد، وهنا وبقدر قوة ورسوخ هذه الفكرة تكون عنيفة أيضًا كل الفرضيات التي تُظهر قدرة على دحضها.
تعكس هذه الفكرة فلسفة عامة وشمولية لرؤية الإنسان للعالم، وتندرج ضمن إطار يخص رسالة الإنسان ومكانته في هذا الكون وهي فكرة غامضة وعصية على الفهم والتحليل، خصوصًا وأنها ترتكز على معنى خاص لمفهوم شائع الاستعمال، إنه اليقين. واليقين هنا هو حيز أشبه بالجدار الذي يفصل أفكارنا حول أنفسنا والعالم من حولنا عن الأفكار المخالفة، في هذه اللحظة يتحول اليقين إلى رمز للاحتكار والإقصاء.
فكل ما هو داخل ذلك السياج الوهمي هو صواب مطلق، وكل ما خرج عنه هو الخطأ المحض، وهكذا يكتسب اليقين وظيفته التي اخترعه الإنسان من أجلها، وهي حماية القبيلة/المجتمع من الأفكار الدخيلة الخاطئة والتي من شأنها أن تهدد تماسكه وانسجامه فتغدو مقاومته ضعيفة أمام هجمات التساؤل والشك واللايقين.
دائمًا ما كان مجرد السماع بفكرة ما مفارقًا ومخالفًا لتجربتها أو مشاهدتها على أرض الواقع، هذه الحقيقة هي بالضبط ما عايشته المجتمعات العربية عقب ثورات الربيع العربي مع الظهور الأسطوري لداعش وتمددها المطرد منذ نشأتها الأولى. هكذا سمعنا من آن لآخر عن بعض النصوص التي سببت إشكالات خطيرة في الماضي وكيف كانت سببًا في الكثير من الأحداث المشينة عبر التاريخ، لكن مجرد السماع كعادته لم يكن دافعًا كافيًا للتحرك، وإعادة محاكمة تلك النصوص ونظرتنا لها، وهنا جاء دور داعش وادعاءها المستمر بتطبيق الشريعة والنص كغطاء مقدس لكل جرائمها المخيفة، وهنا بدأ الرماد يتحرك أفقيًا ليثير ألهبة الشك والمراجعات.
يرتبط في وعي معظم المؤمنين حُسن الإيمان بأن يكون الإنسان خيّرًا ومحبًا للإنسانية وبعيد كل البعد عن التطرف والعنف
قلنا إن تلك الفكرة والتي يمثلها حديث الدكتور عدنان هي التي تشغل الحيز الأكبر في الفكر الإسلامي، قد لا يبدو الأمر مستغربًا عندما نتحدث عن مصدر الشرور في عالمنا بين النص ومتلقي النص، فغاية تلك الفكرة هي إسقاط المشكلة على المتلقين وليس النص؛ فالنص يؤدي حتمًا لسلوك أكثر إنسانية إلا عندما يتعرض له شخص يحمل في نفسه رغبة في العنف والشر، فتتغلب لديه تلك الرغبة فيوؤل النصوص على غير مرادها، لتصبح قابلة لما يضمره من تشوه نابع من داخل روحه الشريرة، هذا ويبقى في المقابل الخيار الآخر -وهو الأخطر والأكثر صعوبة على النفس- وهو أن يكون النص نفسه يحمل بين طياته فعلًا دعوة للعنف أو قابلًا لما يدعمها من تأويلات!
قد يبدو لنا أن القرآن في مجمله كتاب رحمة وإنسانية بالدرجة الأولى، ولكننا في معرض حديثنا عن الخطاب القرآني لا يمكننا إغفال بعض الآيات التي تسببت في الكثير من المعارك الفكرية وغير الفكرية عبر العصور، والسؤال هنا عن صلاحيتها لعصور غير التي نزلت فيها وتفاعلت مع متغيراتها زمانيًا ومكانيًا.
اقرأ/ي أيضًا: إنه كافر.. اقتلوه
من ذلك آية الضرب "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن" والتي تبيح ضرب الرجل لزوجته، وإن حاول المفسرون قديمًا وحديثًا وضع شروط للتخفيف من وطأتها أو تأويلها بغرابة كما يفعل القرآنيون. لكن يبقى أمر تلك الآية عصيًا على الحسم، ومن ذلك أيضًا آية إباحة الزواج من القاصرات. وأيضًا هناك الآيات المختصة بالتشريعات عمومًا وآيات العقوبات البدنية تحديدًا.
"قررت أن أعطّل العمل بالإسلام في حياتي كدين، لأن "التنافر المعرفي" بين بعض تفاصيله وبين ما أظنه الرشاد والعدالة والمنطق وصل عندي حدًا لا أستوعبه، وأن أخفّض رتبته إلى "مستند ثقافي" يملأ فراغات صورة العالم في عقلي وقلبي ويضبط أخلاقي، إلى أن أجد أساسًا غيره أو أعيد اعتماده كدينٍ لي". -أسامة درة.
دائمًا ما حملت تلك الآيات معها الكثير من المناقشات حول مسألة التأويل في النص القرآني. كيف يكون النص الواحد قاعدة تأسيسية للإرهابي والمجرم والإصلاحي في نفس الوقت؟
لم يقف الفكر الإسلامي موقف العاجز أمام تلك المعضلة بالتأكيد، فكانت العديد من المحاولات لخلق تأويلات تقلل حدة الاصطدام مع الحضارة والحداثة. فكان من أهم تلك المحاولات وأكثرها جدارة بالنقاش نظرية التاريخية والتي أسس بنيانها المرحوم نصر حامد أبو زيد في مصر ثم انتشرت بعد ذلك ليعيد صياغتها وثقلها الكثير من المفكرين مثل الدكتور عبد المجيد الشرفي والمؤرخ الدكتور هشام جعيط في تونس والدكتور فضل الرحمن في باكستان، وتقوم تلك النظرية في صلبها على إثبات الارتباط الوثيق للنص في لحظات نزوله مع الأحداث الزمانية والمكانية، ثم الخروج بنتائج تعتمد على هجر حروفية النصوص إلى غاياتها ومقاصدها والتي تقبل التغير الدائم والتطور المستمر للوعي البشري المنتج للحضارة، ورغم قدرتها على مواجهة التطرف الأصولي الإسلامي إلا أن تلك النظرية عانت من مشاكل بنوية رئيسة منعتها من الانتشار لجميع أوساط الفكر الإسلامي، وربما كانت أهم تلك المشاكل هي أنها نظرية مفارقة للنص بمعنى أنها تستمد مشروعيتها بأدلة عقلية وقياسية لا تدعمها نصوص واضحة الدلالة تقبلها الطوائف المختلفة في الفكر الإسلامي شديد التنوع.
داعش وادعاؤها المستمر بتطبيق الشريعة والنص كغطاء مقدس لكل جرائمها المخيفة، كان السبب في تحرك الرماد ليثير ألهبة الشك والمراجعات
دائمًا ما انشغل الفكر الإسلامي بمسألة سلطة النص على حساب مسؤولية النص. مسؤولية النص عن المنعرجات الحضارية في المجتمعات الإسلامية، فقد يتفق الجميع على إسقاط التطور المذهل للحضارة الإسلامية في القرون الوسطى على النص الإسلامي المؤسس، بينما وبنفس المنطق لا يجرؤ أحدهم على السؤال عن مسئولية نفس النصوص عن التخلف الحضاري المذهل وإن كان الأمر يستحق مناقشات أوسع وأشمل وأعمق من تلك الدائرة في أوساط المثقفين في الوقت الراهن، فقد لا يكون السياق هنا ليحتمل مناقشة تفصيلية للإجابة عن السؤال السابق.
لكن وبمنظور واقعي فإن عددًا لا يستهان به من شباب وشابات المسلمين قد يجدون في أنفسهم متسعًا لكل أنواع الأسئلة الصعبة مع شح وفقر شديد على مستوى الإجابات المقدمة من متنوع الأطراف وخصوصًا الرسمي منها كالأزهر مثلًا. قد لا تبدو مصادر نقد الأديان والتراث بعيدة جدًا في هذه الأيام عن متناول الجميع، يتزامن ذلك مع انتشار الإحساس بافتقاد العدل والرحمة والمنطق في عالمهم الصغير، ناهيكم أن تكون كل تلك الكوارث مصبوغة بصبغة الدين.
بالعودة إلى السؤال الأول حول التأثيرات الأخلاقية للقرآن، فإن المتتبع لصنوف المسلمين في الوقت الراهن يجد أن القرآن يمثل لمعظم العقول دور العامل الحفاز في معادلة أفكار معتنقيه الماقبلية، فعند التعرض له نجد أنه لا يعطي نتائج موحدة في اتجاه الخير أو الشر، بقدر ما يدعم المقدمات للحصول على نتائج افتراضية لا تمثل إلا درجات أعلى وأحيانًا متطرفة العلو من المقدمات. فالشخص المنحاز مسبقًا للرحمة يخرج من قراءته للقرآن أكثر إيمانًا بقيمة الرحمة، كما يخرج الشخص الذي يميل للعنف أكثر تشددًا وعنفًا بعد تعرضه للخطاب القرآني.
اقرأ/ي أيضًا:
"الله الصمد".. من نقوش أوغاريت إلى القرآن الكريم
لماذا يكره العرب الغربان؟