ما زال الجليد الأوروبي يموّل حرب روسيا على أوكرانيا. في الجهة المقابلة يعاني سكان العالم من ارتفاع أسعار المشتقات النفطية، ويدفعون أثمان هذه الحرب من جيوبهم. هذا من الجهة الروسية في هذه المعادلة، أما من الجهة الأوكرانية فإن دافعي الضرائب الغربيين هم من يموّلون أولًا، وبشكل أساسي، المقاومة الأوكرانية للغزو، ويدفعون من رواتبهم ثمن المساعدات الإنسانية التي تتدفق على البلاد لتبقي الأوكرانيين على رمق.
تتسارع خطى إخراج الروس من دائرة البشر المعتنى بظروف عيشهم. وخطوة بعد خطوة ينحو الترقب العالمي إلى اعتبار النجاح في تجويع الشعب الروسي نصرًا لقيم تسود في الشطر الآخر من العالم الذي لا تحتله روسيا
في الأثناء تتسارع خطى إخراج الروس من دائرة البشر المعتنى بظروف عيشهم. وخطوة بعد خطوة ينحو الترقب العالمي إلى اعتبار النجاح في تجويع الشعب الروسي نصرًا لقيم تسود في الشطر الآخر من العالم الذي لا تحتله روسيا. الأوكرانيون، وهم رأس حربة الهجوم المضاد على روسيا وجيشها وحكومتها، باتوا، أو يكادون، شعبًا كاملًا من دون ملكيات. يعيشون زمن التضامن الحربي، ويحاولون البقاء أحياء فقط. ومعنى أن يبقوا أحياء فقط، يتحقق في أن تنتهي هذه الحرب وهم في الدرجة الصفر من الحياة. طبعًا لن يغير هذا الحكم وطبيعته احتمال أن يحقق بعض الأوكرانيين أرباحًا في تجارة هذه الحرب. لكن الشعب الذي سيخرج من هذه المحنة يكاد يكون مولودًا جديدًا، لا يملك من حطام الدنيا إلا هواءه، وهو هواء مهدد بالتلوث كيميائيًا وبيولوجيًا ونوويًا.
حشر شعبين كاملين في خط ضيق ومستقيم، أوله الولادة الطازجة وآخره الموت الطازج أيضًا، لا يعود بالنفع على شعوب العالم الأخرى. بمعنى أن نقص الأفواه وانتفاء الرغبات وضمور الأهواء والتمنيات، لن تجعل الشعوب الأخرى التي لا تختبر نار الحرب بشكل مباشر، تتوفر على كل ما تريده وتشتهيه وتتمناه. الحرب تضع عشرات الملايين على حافة الحياة الحادة، وتدفع بقية الأحياء على امتداد الكوكب إلى تقبل العيش في ظروف أسوأ مما كانت عليه ظروفهم من قبل. حسنًا، هناك من يفترض أن هذه التضحية الباهظة ضرورية لانتظام سير الحياة بعدما يتم عقل لسان الروسي المتبجح، وكف يده المتهورة، فلا يعود ثمة موت نووي يلوح في أفق العالم ويلبد سماءه وهواءه. والحق، إنه لو كانت هذه التضحية مجدية لوجب علينا جميعًا أن نسعى لتحقيقها. لكن الهواء النووي ليس هواء روسيا فحسب. إنه في أحسن أحواله، هواء متعدد الأقطاب. قد يبدأ روسيًا وينمو هنديًا وباكستانيًا، ويجنح لأن يصير إسرائيليًا وإيرانيًا، وكل هذا قد يحصل تحت مظلة من القلق الذي تنشره كوريا الشمالية في أفق جيرانها وفي هواء العالم. هذا في أحسن أحواله طبعًا. لكن أسوأها لن يبقي مجالًا للخيال أو القص والرواية. ثمة أهوال كامنة في خزائن الجيوش ومقارها لا يُحسن تخيل حجمها ومخاطرها من دون يأس. وهو ليس يأسًا مداويًا كالذي قد يصيب القادة الروس أو الأوكرانيين إذا ما قرروا الاعتراف بالهزيمة، بل هو يأس يدفع دفعًا لا راد له إلى تبني الرغبة في الاحتضار حتى لو كان زمنه يقاس بالعقود. الاحتضار الذي لا يريد صاحبه، أو أصحابه، أن يتركوا وراءهم أثرًا طيبًا، بل ذلك الذي ليس أكثر من مجرد إلقاء نظرة على أخيرة على السماء، وإقامة طقوس وداع للأشجار الأليفة، ومراقبة الأنفاس التي تعلو وتهبط في الرئتين قبل أن تهمدا كجثتي توأم.
المحتضرون في هذا العالم يزدادون عددًا. لكن الحكومات تنشط وتهتاج، ذلك أنه في ما يبدو لا تنشط الحكومات وتهتاج وتزدهر إلا حين تضطلع بمهمة التضحية بشعوبها
حسنًا، يبدو أن حكومات العالم المتحكمة بمصائر الكرة الأرضية تحاول تعويدنا على هذا الاحتضار. فالمحتضر لا حاجة له بحساب مصرفي، فلينفق اليوم ما يملكه لتمويل هذه الحرب. والمحتضر لا يحتاج طعامًا بالكمية والنوعية نفسها التي يحتاجها صحيح الجسم. فليقلع عن تطلب الشهي والطيب والمطبوخ والمعالج بالمطيبات، ويكتفي بما تيسر من مواد.
المحتضرون في هذا العالم يزدادون عددًا. لكن الحكومات تنشط وتهتاج، ذلك أنه في ما يبدو لا تنشط الحكومات وتهتاج وتزدهر إلا حين تضطلع بمهمة التضحية بشعوبها. هكذا يستطيع الخطاب القومي الروسي أن يدعي أنه يدافع عن روس أوكرانيا الذين يواجهون حملات عنصرية، لكن الأمن الروسي الذي يقلق كثيرًا على مصائر الروس المقيمين في أوكرانيا لا يقيم وزنًا لمصائر المتظاهرين في موسكو ضد الحرب، أو لحق معارضي قيصر الكرملين (ووصف القيصر ليس أقل من شتيمة تامة الأركان) في أن يعيشوا خارج جدران السجون الباردة.