الحلقة الأولى: في الانقلاب على الأشخاص
ورد في كتب السيرة النبوية، أن الصحابي عبد الله بن سلّام (وكان من يهود قينقاع) أسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فقال لهم: "يا معشر اليهود ويلكم، اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًا وأني جئتكم بحق فأسلموا". قالوا: ما نعلمه. قال النبي: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟"، قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: "أفرأيتم إن أسلم؟" قالوا: حاش لله ما كان ليسلم. قال: "يا ابن سلّام، اخرج عليهم"، فخرج، فقال: يا معشر يهود، اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق. فقالوا: "شَرُّنَا وابن شَرِّنَا، وتنقصوه". فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا فعل يهود بني قينقاع؛ تبدل سريع في المواقف، انتقال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، خفة ورعونة، نزق وطيش، وتناقض لا أخلاقي.
جعل الشنقيطي الحوار في برنامج "قراءة ثانية" حوارًا إسلاميًا-علمانيًا، وأطلق عليه هذا الاسم السحري "تمسيح الإسلام"، بمعنى قراءته قراءة مسيحية، مرتبطًا بمؤامرة كونية تجري على قدم وساق، بحسب تعبيره، وللجنون فنون!
تصلح قصة بني قينقاع هذه رمزًا نشير به إلى طريقة تعاطي من يسمى "أستاذ الأخلاق السياسية" أو بالأحرى "أستاذ التبرير الأخلاقي" محمد مختار الشنقيطي، مع الأشخاص والأحداث، ولا أعني بالأشخاص أنصار المستبدين وأشباههم، ولكنني أعني إخوانه، وحلفاءه وكأنه يفضّل أن يبقى "وحيدًا"، لا ينطق إلا هو، ولا يجتهد إلا هو، ولا يقدّم "قراءةً" للدين والدولة سواه، ومن لم يتطابق معه، ولو في جزئية واحدة، يصبح عدوًا عميلًا خائنًا متصهينًا، مشاركًا في مؤامرة كبرى ضد الإسلام والمسلمين، وفرصة سانحة للتحريض غير البريء، والتهييج سيئ العاقبة، وشق الصفوف، ولا يُدرى لمصلحة من هذا كله؟ ولماذا؟
أما الطريقة "القينقاعية" (نسبة إلى بني قينقاع) في التعامل مع الأحداث والأفكار، فلها مقالة خاصة، وأخصص هذه المقالة لقينقاعية صاحبنا في التعامل مع الأشخاص، ومنهم أصدقاء وإخوة، ومشاركون له في الهمّ، أو على الأقل ليسوا أعداء.
لكن قبل الدخول في التفاصيل أحبّ أن أبيّن لماذا أكتب هذا المقال؟
موقفه معي: حتى أنت يا بروتوس؟
عرفت الشنقيطي أول ما عرفته بكتيّبه عن الخلافات السياسية بين الصحابة فرأيته متفقًا معي في الموقف منها، التزامًا بالمبادئ، مع احترام الأشخاص، وإن كان هذا يخالف الاتجاه السائد عند أهل السنّة، ولقد تعرض الشنقيطي بسببه إلى هجوم استوجب مني التعاطف.
كان أول اتصال لي بالشنقيطي عام 2010 في ما أذكر، بمكالمات هاتفية، أذاكره وأباحثه، وكنت وقتها قد أنهيت مسودة كتابي نقد الخطاب السلفي. وكنت أتصل به مرة بعد مرة، على هذا المنوال.
انتقلت إلى الدوحة، عام 2013، على إثر تحريض عنيف تعرضت له من التيار المتشدد حيث كنت أقيم، كان من آثاره تضرري في رزقي، وسمعتي، وكنت وقتها إمام مسجد وخطيب جمعة، فإذا بي أوصف بأني مرتدّ، وأني شيخ الإلحاد والملحدين، وأني مشارك في مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين. كل هذا من أجل آراء دينية لم أخرج فيها عن أقوال علماء كبار سابقين، يعرف قصتي هذه من يعرفها ويجهلها من يجهلها. والمقصد أني أعرف "التحريض" الدينيّ وآثاره السيئة، وأخبر الخذلان وطعمه المرّ. وعانيت ذلك كله معاناة لا داعي هنا إلى التفصيل فيها، واكتفيت بناره الحارقة التي لا أتمناها لأحد.
في الدوحة، تسنّى لي اللقاء بالشنقيطي مرارًا، في مجالس خاصة وعامة، في بيت أو مقهى أو منتدى ثقافي، وبيننا أصدقاء مشتركون مقربون، من جانبي وجانبه، فهو يعرفني ويعرف توجهي وأفكاري، كما أعرف أنا توجهه وأفكاره. وليس في الصدور حسك، ولا في القلوب غِمْر. وما كنت أهتمّ بمتابعة ما يكتبه على معرّفه في تويتر، إلا ما ظهر لي لمامًا وأنا أطالع. وكنت ربما ألمح تطرفًا في العبارة، ومبالغة في الوصف، و"ذبابيةً" في الطريقة، و"عاميّةً" في التعاطي، كعاميّة أهل بغداد وبربهاريتها (مع كامل الاحترام للشيخ الجليل الحنبلي البربهاري رحمه الله تعالى، فإنه كان من أزهد الناس وأبعدهم عن ملذّات الدنيا، وعن الخساسة والنذالة) لا تليق به ولا بأبحاثه، فأقلب متعجبًا شفتي، وأغض طرفي، بعد أن أتساءل: كيف لمثل هذا الفاضل الوديع أن يسلك هذا المسلك؟ ثم أتابع اطلاعي، محسنًا به الظن، لأني أعرف مرجعيته كما يعرف مرجعيتي، وأتفق معه في معظم ما يذهب إليه فكريًا. حتى إني طلبت منه أن يكون مشرفًا لي على رسالة الدكتوراه التي كنت أنتوي كتابتها عن علاقة الاثني عشرية بالحنابلة، فرحّب مشكورًا، إلا أن خطتي كلها تغيّرت، وبدّل النهر طريقه، ولعل هذا هو الخير.
قبل شهرين أو أكثر قليلًا من الآن، أرسل إليّ يسلّم ويسأل ويطلب احتساء القهوة معي، طالبًا منّي كتابًا، فوعدته خيرًا، وأرسلت بالكتاب مع أحد الأصدقاء المشترَكين المقرّبين، ثم أرسلت إليه أطمئن أوصل إليه الكتاب أم لا؟ حرصًا على المعروف، ووفاءً بحق الأخوّة، والعلاقة الممتدة، وإن كانت متقطعة، في نحو عقد من الزمان.
قبل شهر تقريبًا شاركت في حلقة من برنامج يبث على قناة "التلفزيون العربي" عنوانه "قراءة ثانية" يدير اللقاء فيه الإعلامي اللامع المهذب العالم الدكتور علي السند، وكانت الحلقة عن "الدولة في الإسلام"، وهو نقاش قديم، فيه خلاف مسطور، وأقوال مأثورة، واجتهادات فقهية مدوّنة، ولم آت فيه بشيء مفاجئ أو جديد، ولم أقل هجرًا، ولم أكفر بالله، ولم أشكك في رسالة النبي، ولم أفسق، ولم أخالف إجماعًا حقيقيًا قطعيًا بشروط الإجماع المتفق عليه، لا الإجماع المختلف فيه، وكان حديثي فيه مبنيًا على التأصيل الشرعي (وإن لم يعجب من يخالفني في ذلك). فالمسألة إذن لم تكن إلا اجتهادًا سائغًا، في جزئية محددة، ضمن حدود الاستدلال وأدواته، والنصوص الشرعية وفهمها، فأنا أعتقد أن الإسلام فيه نظام سياسي وأخلاقي واجتماعي، وفيه قطعيات، وفيه إجماعات متواترة تتفق عليها الأمة بجميع طوائفها المتحاربة على مرّ القرون. لكن أمر تطبيق هذا النظام موكول إلى الأمة، ولم ينص على الدولة، ولا على غير الدولة، لأن هذه أمور من الوسائل، والوسائل متروكة للعباد، تتطور وتختلف باختلاف الزمان والمكان والعوائد، مع الاتفاق على وجوب تطبيق ذلك النظام ومقاصده.
كان أبعد من أبعد خيالاتي أن يقوم بالتحريض الصريح الرخيص عليّ وعلى البرنامج ومن شارك فيه، وعلى القناة، وعلى المفكر العربي المعروف عزمي بشارة بتهمة غريبة عجيبة قائمة على نظرية "المؤامرة"
كان آخر ما توقعته أن يعارضني الشنقيطي في هذا الرأي هذه المعارضة التي تجاوزت الحد المعقول جدًا، بل كان أبعد مما "لم أتوقعه" أن يتهمني في ديني وفي صدقي وفي نزاهتي وضميري، بل كان أبعد من أبعد خيالاتي أن يقوم بالتحريض الصريح الرخيص عليّ وعلى البرنامج ومن شارك فيه، وعلى القناة، وعلى المفكر العربي المعروف عزمي بشارة، بتهمة غريبة عجيبة قائمة على نظرية "المؤامرة" (الشنشنة التي أعرفها من أخزم) أطلق عليها اسمًا عجائبيًا ومصطلحًا غرائبيًا سمّاه مشروع "تمسيح الإسلام"، المتفق، في زعمه، مع فكرة وائل حلّاق الذي، مع الأسف الشديد، لم أقرأ أي كتاب من كتبه، لتقصيري وانشغالي بكتب التراث. علمًا بأني أقول بهذا القول منذ عام 2013 تقريبًا. بناء على اجتهاد شخصي، وعلى فهم للنصوص الشرعية، وقراءة التاريخ والتراث، وافق الشنقيطي ذلك أم خالفه.
وأصل فكرة برنامج "قراءة ثانية" أنه حوار إسلامي-إسلامي، لقضايا تراثية يختلف فيها الإسلاميون أنفسهم، لكنّ الشنقيطي، وبطريقة "يهود بني قينقاع" جعله حوارًا إسلاميًا-علمانيًا، وأطلق عليه هذا الاسم السحري "تمسيح الإسلام"، بمعنى قراءته قراءة مسيحية، مرتبطًا بمؤامرة كونية تجري على قدم وساق، بحسب تعبيره، وللجنون فنون!
وفي هذا من البهت والافتراء والطغيان ما لا يليق برجل هو "أستاذ للأخلاق"، فضلًا عن كونه أخًا كان قبل أيام معدودة يتواصل من أجل لقاء ودود، في علاقة أخوّة ومودّة، صحيح أنها متقطعة، لكنها قديمة. فإذا أنا، بقدرة قادر، ومن شارك في البرنامج "صنائع" ننوب عن غيرنا في التحدث باسمه، وإذا نحن بلا ضمائر.
كانت ردّة الفعل غير المتوقعة ولا المبررة هذه مفاجأة لي، أذكرتني ببعض مواقفه سابقًا من أشخاص هم أقرب إليه منّي، سرعان ما انقلب عليهم وهم في أضعف حالاتهم، وأشخاص آخرين هم على الأقل ليسوا أعداءه، وإن كانوا يشاركونه همومه التي يعلن عنها في تحرير الشعوب من ربقة الاستبداد. حرّض عليهم بطريقة لا يمكن أن تنتمي إلى المروءة.
علي الظفيري: غريق ولكنْ "إياك إياك أن تبتلّ بالماءِ"!
هل يجهل أحد الإعلامي الكريم النبيل علي الظفيري؟ ذاك المحاور اللامع، والمذيع النابه؟ كلنا عرف الأستاذ علي الظفيري على قناة الجزيرة، منافحًا عن الشعوب، مؤمنًا بحقها في تقرير مصيرها، مناهضًا للاستبداد ناقدًا له في مقالاته ومواقفه. وهو مع هذا على علاقة جيدة بالشنقيطي. حتى إذا ما كان على الظفيري بوصفه مواطنًا سعوديًا أن يعود إلى بلده، في الظروف الصعبة التي نعرفها جميعًا، صدر مقال مذيل باسمه فيه إدانة للإخوان، مما يخالف صريحًا مواقف الظفيري المشهورة المعلومة. في مثل هذا الوضع الصعب على الصديق العزيز الظفيري، والذي كان محل تعاطف من كل من يعرفه، أطلق الشنقيطي لسانه أسرع من لسان الضفدع يتصيد به ذباب الكلمات، ليصرّح بوضوح بأن الظفيري "حتى لو كان مكرَهًا" [كذا] فإن ما وقع منه "تجنٍّ كبير". وبغض النظر عن المودّة التي كانت بين الظفيري والشنقيطي؛ هل الشنقيطي من السذاجة والبراءة بحيث لا يخطر بباله ولو للحظة واحدة أن هذا المقال ربما يكون منحولًا على علي الظفيري؟ هل هو من البلاهة والغباء بحيث لا يقدّر أن يكون الظفيري، لو صحّ أنه حقًا وفعلًا كاتب المقال، مكرهًا مهددًا؟ لا أظن هذا، لولا أن للمسألة حسابات أخرى، وسيكون لها، من دون شك، تبرير أخلاقي، فـ "أستاذ الأخلاق" خبير بهذه المسالك. ومع هذا، تغيّر اسم صاحب المقال، دلالة على أن المقال كله فيه شك. ورغم هذا لم يكلّف الشنقيطي نفسه، الذي ثبت أنه ظلم أخاه وقسا عليه وطعنه طعنة الغدر، بأي اعتذار، بل حتى لم يكلّف نفسه أن يدعو لأخيه المحتجَز بدعوة صالحة يدعو له فيها بالفرج! وبهذا يكون ظلم أخاه من جهتين: أنه يصرّ أنه حتى لو كان مكرهًا فهو متجنٍّ (مع أن المكره لا يؤاخذ حتى لو نطق بالكفر مما هو مقطوع به وليس عليه أي ملام)، وأنه لم يقدّر، وهو يعلم يقينًا أن هذا وارد، أن المقال قد يكون منحولًا على الظفيري وموضوعًا عليه، ثم ظهر، باليقين، أنه لم يكتب المقال أصلًا، ومع هذا لم يقدّم الشنقيطي أي اعتذار فضلًا عن تعاطف أو دعوة لا تكلفه كتابة سطر!
والتبرير الأخلاقي، عند "أستاذ الأخلاق"، جاهز بالطبع: "الظفيري عزيز على قلبي، ولكن الحق أعزّ علي منه"! فهل هكذا الأمر فعلًا؟ أهذا فعلاً هو الحق؟ وهل حق الإخوان المسلمين عليك أعزّ من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نال منه عمار بن ياسر بحكم الإكراه، وهو رسول الله وهو مظلوم، فقال له النبي: "إن عادوا فعد"؟ إني لأظن أن لو انعكست القضية، وكان الشنقيطي هو الذي في حكم المكرَه، لما كان موقف الظفيري من الشنقيطي، كموقف الشنقيطي منه، فالناس معادن.
لكنه انتهز الفرصة، باسم الحق، ليحقق لنفسه "بطولة إعلامية" على ظهر رجل محتجَز، والله أعلم بحاله، فتنكّر له، ونسي سنين من التوادّ بينه وبينه. في حين كان "العشم" (إن لم يكن هناك دين وقرآن) أن يدفع عن أخيه، وأن يعذره بالإكراه، أو يعذره بتزوير المقال عليه، وأن يدعو الله أن يفرج عنه. لكن أستاذ الأخلاق بخل عليه حتى بدعوة صالحة. فهل هناك أبخل وألأم من هذا؟
اختراع العداوة: حتى محمد كريشان هدف للتحريض!
لا أعلم أن هناك أي علاقة تربط الشنقيطي بالمذيع المهذب القدير محمد كريشان، غير أن ما أعلمه أن قناة الجزيرة لها معاييرها الصارمة، وأن من يعمل فيها لا بد أن يخضع لهذه المعايير، مهما كان رأيه الشخصي، حفاظًا على رزقه إن لم يكن التزامًا بقواعد مهنته.
لم يسلم محمد كريشان وهو يؤدي عمله باحترافية مشهودة، من "تحريض" الشنقيطي، في تويتر، وعلى رؤوس الأشهاد، حتى كأنك تحس أنه يريد أن يصطنع معركة من لا شيء. حتى مع مذيع يلتزم معايير مهنته، وله فيها تاريخ عريق. وقد رأينا كريشان يذرف الدمع على أخيه المصوّر "الإسلامي" طارق أيوب رحمه الله، والذي تخطّفتْه يد الغدر والظلم، فلم يتمالك نفسه من البكاء، مخالفًا، بالفعل والصوت والصورة، في هذا الموقف الإنساني العاصف، معايير قناة الجزيرة.
عزمي بشارة: أعتزّ بشهادتك وأحترمك ولكنّي أحرّض عليك وأتّهمك!
أما الباحث والمفكر العربي الدكتور عزمي بشارة، مؤسس المركز العربي للأبحاث ورئيس مجلس أمناء معهد الدوحة للدراسات العليا، وغيره من المؤسسات البحثية والفكرية، والذي يشرف بصحبة كبار اللغويين والمعجميين على المعجم التاريخي للغة العربية؛ فبعد أن كان الشنقيطي يباهي بمدحه كتابًا له أمام مئات الألوف من متابعيه، إذا به يستعدي عليه الناس ويتهمه.
وبعد أن كان الشنقيطي يشارك في فعاليات المؤسسة؛ من مؤتمرات، وندوات، ومجلات، ومنها مشاركته "عن الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية" والتي يطرح فيها نظريته السياسية الإسلامية بكل حرية (لعل هذا أيضًا داخل في تمسيح الإسلام الذي يتهم به حلفاءه). أصبح، فجأةً، يحرض عليها.
وبعد أن كان ينشر في مجلات المؤسسة ويباهي بهذا أمام الخلائق، كدراسته "أمة النخلتين" التي نشرت قبل أشهر فقط في مجلة من مجلات المركز العربي، إذا به يكتشف السر الأعظم! (فجأة، ويا سبحان الله، ولله في خلقه شؤون، ويا للهول، ويا خفيّ الألطاف نجّنا مما نخاف) أن الدكتور بشارة (وهو عالم باحث مجاله الواسع العلوم الاجتماعية والفلسفة)، ليس مسلمًا سنيًا شافعيًا أشعري العقيدة شاذلي الطريقة ثنى ركبه عند المشايخ وتخرّج من الجامع الأزهر! وإنما هو، كما يعرف كل أحد وكما هو معلن أصلًا، علماني عروبي ديمقراطي (فكأن الشنقيطي كمن أراد أن يكتشف أميركا فاكتشف قبرص!)، فضلًا عن سر الطلّسم الغامض أن الدكتور بشارة مسيحي الديانة. ومع الأسف، لم يتورّع صاحبنا عن إعلان هذا الإشارة إلى الديانة في اكتشافه العظيم، وفي تحريضه الذي زعم فيه أن برنامج قراءة ثانية جزء من هذا المشروع الكوني الخطير! ولوددنا لو دلّنا على موطن "هذا التمسيح" في برنامج قراءة ثانية، على الأقل ليكون له شيء من الصدقية، وهو يعلم أن الطرح أصولي وفي قضية جزئية أنا مسبوق فيها.
وكالعادة، بالطبع، لا يعجز "أستاذ الأخلاق" عن تبرير أخلاقي، ولو ضعيفًا، لذلك الهجوم والتحريض غير البريء، فيصرّح، وبراءة الأطفال في عينيه، "إن ما بيني وبين عزمي بشارة هو الاحترام المتبادل، ولكن الخلاف فكري"! ولا بد أن "أستاذ الأخلاق" له فهمه الخاص جدًا والمنفرد به عن الإنس والجن والكائنات الفضائية لمفهوم الاحترام والخلاف الفكري، وربما كان المصطلحان جديرين بدراسة تجديدية أخلاقية، يعرّف مفهوم الاحترام فيها بـ "الاتهام"، ويشرح مفهوم الخلاف الفكري فيها بأنه "التحريض والافتراء"، وهلمّ سحبًا وجرًا، وما ذلك على أستاذ الأخلاق بعزيز.
ربما يظن صاحبنا، بعبقرية نادرة، أن الاحترام والتحريض والاتهام والتخوين والخلاف الفكري كلها سواء في المعنى، والخلاف فيها لفظي فقط. فإذا كان ذلك كذلك، فحق لي أن أدعو: اللهم أجرني وسائر بني آدم من "احترام" الشنقيطي، وأعذني والخلائق من "خلافه الفكري"، نعوذ بالله من الاحترام الرجيم!
وبعد، إنه لولا الظلم والبغي الذي وقع على شخصي، فضلًا عن غيري من زملاء وأصدقاء، وهم كلهم أفاضل كرام، ولولا التحريض الذي لا يلتزم مروءة ولا أخلاقًا، ولا يعرف عهدًا ولا ذمة، ما كتبت في هذا الرجل حرفًا. غير أن لصاحب الحق مقالًا، وللمظلوم أن ينتصر بالحق لا بالباطل. ومن حق الناس أن يعلموا نهج الشنقيطي في إطلاق الأحكام، وتقلبه الشديد في علاقته بالأشخاص، وتناقضه الواضح البيّن، مع محاولة التبرير لظلمه الذي هو ظلمات، فضلًا عن سنّة التحريض التي تؤدي غالبًا إلى الاحتراب والظلم، وتهدد الأمن والسلم، والتاريخ يشهد أنها أسالت كثيرًا من الدم. كل تلك التقلبات مع الأشخاص، تدل على هاتيك الصفات المذكورة في أول المقالة، صفات بني قينقاع: تبدل سريع في المواقف، انتقال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، خفة ورعونة، نزق وطيش، وتناقض لا أخلاقي.
لولا الظلم والبغي الذي وقع على شخصي، فضلًا عن غيري من زملاء وأصدقاء، وهم كلهم أفاضل كرام، ولولا التحريض الذي لا يلتزم مروءة ولا أخلاقًا، ولا يعرف عهدًا ولا ذمة، ما كتبت في هذا الرجل حرفًا. غير أن لصاحب الحق مقالًا، وللمظلوم أن ينتصر بالحق لا بالباطل.
هذا، وسنرى هذه الطريقة ذاتها، في مواقفه السياسية، التي لا تختلف كثيرًا عن مواقفه من الأشخاص.
"ولمن انتصر من بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق". صدق الله العظيم.
اقرأ/ي أيضًا:
أخلاقيات الزمن الفروسي الإسلامي