سيرة شيزوفرينيا سياسية
تناولنا في الحلقة الأولى ضربًا من طريقة تعاطي "أستاذ الأخلاق السياسية" محمد مختار الشنقيطي مع فريقين من الأشخاص؛ من كانوا أصدقاءه وحلفاءه، أو لم يكونوا على الأقل أعداءه، تعاطيًا قائمًا على الافتراء المباغت بعد تعارف وتآلف.
ونتحدث في هذه الحلقة عن طريقة تعاطيه مع الأفكار والمواقف السياسية، والتي يتعامل معها بالطريقة ذاتها والمنهج ذاته؛ انقلاب شديد من أقصى الطرف إلى أقصى الطرف، خفة ورعونة، نزق وطيش وتناقض لا أخلاقي. لكننا نضيف إلى تلك النزعة، نزعة أخرى، نستقيها من قصة قدوة "المزايدين" ذي الخويصرة التميمي. وقد كان ذو الخويصرة هذا حاضرًا مرة والنبي صلى الله عليه وسلم يقسم الفيء، فأعطى كثيرًا من المال لناس من المشركين تأليفًا لقلوبهم، وهنا قال ذو الخويصرة للنبي مزايدًا عليه في العدل: "اعدل"! أي إنه رأى نفسه "أولى" من النبي نفسه في التحلّي بقيمة العدل. غير أن الفرق بين ذي الخويصرة التميمي هذا، و"ذوي خويصرات" عصرنا، أن ذا الخويصرة الأكبر لم يكن امرؤًا متلونًا، بحسب "زقزاق" السياسة، كأحفاده ذوي الخويصرات الصغار في عصرنا، يقول أحدهم القول ونقيضه، والشيء وضده، ثم لا يستشعر خجلًا، ولا يقدّم اعتذارًا.
اقرأ/ي أيضًا: محمد مختار الشنقيطي وحيدًا
الطائفية المخفيّة: "ما لي أكتّم حبًا قد برى جسدي؟"
عُرف محمد مختار الشنقيطي بأنه من دعاة التعايش والاحترام المتبادل بين السنة والشيعة، وقدّم كتابه الخلافات السياسية بين الصحابة خطوة في هذه الطريق، وله مقالات ولقاءات يحارب فيها الطائفية، صراحةً، ويجرّمها تجريمًا ويهزأ بها وبأصحابها. وفي كتابه عن الحروب الصليبية برّأ الشيعة مما هو سائد في الفكر السنّي من أن الفاطميين تخاذلوا عن نصرة فلسطين والمسجد الأقصى أمام الصليبيين، أو أنهم كانوا أحلافًا لهم، كما هو في مقالته عن السنة والشيعة والذاكرة المشوّشة.
وفي سياق محاربته للطائفية، وإيمانه بدولة العدل التي تضمن الحقوق لكل الطوائف في أديانها ومذاهبها وعبادتها، يهلل مستبشرًا بافتتاح "أول حوزة شيعية" في مصر، في عهد المرحوم الرئيس المنتخب محمد مرسي، على أساس أن هذا يبشر بدولة العدل الذي لا مثنوية فيه.
وحين يُظهِر أحد من عامّة المصريين "فزعه" واستياءه من هذا، وأن هذا قد يؤدي إلى "فتنة" و"كوارث"، ينبري الشنقيطي ليدافع عن فكرته، فالفتنة هنا ليست فتح حوزة شيعية، ولكنها، على الحقيقة، منع الناس من التعبد كما يشاؤون. وهذا موقف يُشكر له، لم يبال فيه بـ "المحرّضين".
وبالفعل، حدثت الفتنة، وقامت مجزرة في الجيزة، وقتل شيخ الشيعة في مصر حسن شحاتة وآخرون، وسحلوا في الشوارع سحلًا. ظهر هذا في الإعلام، وتطايرت به الأنباء، وأبدى الشنقيطي موقفه من هذا، فالهمجية التي تحدث في سورية لا تبرر همجية مقابلة (أي إنه كان يقرأ أحداث سورية أنها نزاع طائفي وأن الهمجية في قتلهم هي همجية طائفية، شيعة يقتلون سنة، لا نظام بائس يقتل ثوارًا مطالبين بحقوقهم، ولا قياس بين هذا وبين مقتل حسن شحاتة الذي له أسباب طائفية محضة بسبب التحريض الذي اقتدى به الشنقيطي مهيجًا عليّ وعلى غيري بسبب رأيي الذي قدمته برنامج قراءة ثانية، دفاعًا عن الدين طبعًا!).
ولقد صدق في هذا، وهو يعلم أن هذه الجريمة البشعة لم تحدث من دون "تحريض" يسبقها، وشحن عاطفي يؤدي إليها. ولكن "أستاذ الأخلاق السياسية"، مع الأسف، وبالأدوات ذاتها التي تقود عاجلًا أو آجلًا إلى همجية مشابهة (فالنوع واحد وإن اختلفت الدرجة)، يحرّض على "حلفائه" لا على خصومه بالضرورة؛ يحرّض على من فتحوا له أبوابهم، وبسطوا له أذرعتهم، وحكّموه في مقالاتهم ودراساتهم، واستضافوه في مؤتمراتهم، ونشروا له في مجلاتهم، يطرح رأيه بكل حرية، إيمانًا منهم بالتعددية حقًا، وبتنوع الأصوات صدقًا، ممهدين له، ولغيره مهما اختلفت آراؤهم ورؤاهم، كل الطرق، ما داموا ملتزمين بالمنهج العلمي البحثي.
وفي لحظة من لحظات "الصفاء"، يأتي الشنقيطي بصورة لا تخلو من طرافة، لأسرة من أب شيعي وأم سنيّة وابنة جمعت "الحسنيين"، ليقرر أن الصراعات الطائفية مقبرة للعقائد الدينية.
كل هذا جميل، وجميل جدًا، وجدًا جميل (بحسب طريقة المرحوم طه حسين في التكرار، والذي لو كان حيًا لحرّض الشنقيطي عليه). وهكذا قدّم الشنقيطي نفسه، رجل أخلاق ومبادئ وقيم وعدالة، محاربًا للطائفية، مناضلًا عن التعددية، لا يقع في صراعاتها، ولا يواجهها بمنطقها، فاستحضار القسمة "سني-شيعي" هو استعمال للمنطق الطائفي ذاته، فالواجب أن تنسب الأفعال إلى أصحابها من دون استحضار للطوائف والمذاهب، كيف لا وهو "أستاذ الأخلاق"؟
ولهذا يقول، بأسلوب حريري، وابتسامة رائقة، وصوت ناعم، إننا نطالب بقتال إيران وحزب الله، لا لأنهم شيعة، بل لأنهم بغاة ظالمون.
لكن أستاذ الأخلاق "غير الطائفي"، الذي كان يحذّر من مواجهة الطائفية بالطائفية، فيرى أن إيران في طائفيتها ليست قدوة لنا.
وبعد أن كان يوجب أن يفكك الخطاب الطائفي كله.
يتحوّل، كفعل بهلوانات السيرك، وهذا دأبه في كثير من مواقفه، إلى الخطاب الطائفي الذي يريد تفكيك منطقه بزعمه، فيستحضر المذاهب والطوائف وينص عليها؛ فلم يعد هناك إيران فقط، بل إيران والشيعة، ولم يعد هناك الصائل الإيراني فقط، بل الصائل الشيعي.
وهكذا، لم يستطع "أستاذ الأخلاق" أن يحافظ على اتزانه، فأبت الشيزوفرينيا السياسية إلا أن تطل برأسها، فتبدو طائفيته المتوارية التي ربما لا يعيها، تحت سُجُفٍ من الكلام الشاعري الإنشائي، أو أرطال من الماكياج على وجه متغضن عجوز.
فتارة يتحسّر على أنه ليس هناك يهود يقتلون يهودًا، ولا شيعة يقتلون شيعة، بل هناك عرب يقتلون عربًا، وسنة يقتلون سنة. وهذا خطاب طائفي، ومنطق طائفي ضمني، وليته نصّ على أن هناك مسلمين يقتلون مسلمين وكفى. ليكون لكلامه وجه غير طائفي.
وتارةً يتأسّف على أن الحرب غير متكافئة إذا كان السنة يقتلون السنة والشيعة يقتلون السنة، فما اقتراحاته يا ترى لتكون الحرب متكافئة؟ هذا أيضًا خطاب طائفي، ومنطق طائفي.
وبالخطاب الطائفي ذاته، خلافًا لكلامه عن وجوب مواجهته بغير منطقه، يرى أن الدماء التي أسيلت في سورية إنما أسيلت على يد "الشيعة"، وهو يعلم أن من جنود الجيش السوري من هو من أهل السنة، ويعلم أن من مطبّلي الرئيس السوري من هم من أهل السنة، وهم كثر، وكان الأولى به أن يتجنب النص على المذاهب والطوائف، ويبقي القضية في إطار الأنظمة السياسية ومن تبعها من الهيئات والجهات والأشخاص التي ارتكبت جرائم حرب.
وهو يعلم أن ليس كل شيعي في إيران ولا كل شيعي في العراق ولا كل شيعي في لبنان وأفغانستان مسؤولًا عن الدماء السورية، ولكن ميزان الأخلاق المعطوب لا يمكن إلا أن تطيش كفته. في خطاب أقل ما يقال فيه إنه خطاب شعبوي طائفي، لا خطاب باحثين وحكماء.
وبعد أن كان يتكلم عن "الصائل الإيراني"، إذا به يتكلم عن "الصائل الشيعي"، هكذا وبوضوح، يتحوّل "أستاذ الأخلاق السياسية" إلى أن يكون "أستاذ التناقض الأخلاقي"، بامتياز، مخالفًا تنظيراته حول إطفاء لهيب الطائفية بحبر الحكماء لا بدم الأبرياء (عنوان مقالة له قبل التحوّل).
ومن المضحك المبكي ما أطلقه في محاضرته التي ألقاها في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (قبل أن يحرّض عليه وعلى من يديره وعلى من فيه)، أن أسباب الطائفية تكمن جذورها، بزعمه، في "حنبلة السنة" و"سمعلة الشيعة"، فهو يرى أن الخطاب الحنبلي هو خطاب طائفي، إذا أخذ به عموم أهل السنة صاروا طائفيين. وهذا كلام من لا يعرف الحنابلة، ولا أحمد بن حنبل، فهل الحنابلة طائفيون؟ هذه هي النتائج التي يصل إليها من غاية همه اختراع كلمات رنّانة، أكثر من إنتاج فكرة صائبة رصينة.
وهكذا يذهب الكلام الجميل الظريف البريء عن التسامح أدراج الرياح، وإذا هي طائفية مكتّمة (ما لي أكتّم حبًا قد برى جسدي)، تظهر بحسب المزاج والهوى، وهكذا لا ينسجم الموقف مع التنظير، في ازدواجية، و:
تناقض ما لنا إلا السكوت له .. وأن نعوذ بمولانا من النارِ!
التلوّن السياسي: "إذا الريح مالت"!
كان الشنقيطي من الذين خُدعوا بالعسكر ذات مرة، فقام يذكر السيسي بألف خير، فيصفه بأنه "ذو حس وطني عميق"، غطّته الفترة المباركية. ثم سرعان ما ظهرت "السذاجة السياسية" (التي طالما وصف بها غيره) في إحسان الظن المبالغ فيه بالعسكر، وسرعان ما انقلبت الأمور وظهر المستور، وخابت الظنون وماتت الآمال، حين كان الانقلاب الأثيم على الرئيس المنتخب محمد مرسي رحمه الله، وجازى ظالميه بعدله. هذه البيانات العجِلة العمياء الخالية من البصيرة، والمبنيّة على الانطباع الوقتي المجرد، والقائمة على المديح الجزاف ما هي، كيفما كان الأمر، إلا "تسويق سياسي"، أثّر في الناس واقتنعوا به، ولا سيّما حين يصدر مكسوًا برداء العاطفة، واللغة الإنشائية كلغة الشنقيطي. كانت سقطةً من السقطات التي لا ينتجها إلا السذاجة والإفراط المحرجان لصاحبهما، ولا سيّما من يكثر وصف مخالفيه بهما.
وقد حذف الشنقيطي التغريدة بعد أن أعدت تدويرها على حسابي في تويتر، وخيرًا فعل، فإن من حق السوءات أن تُستَر.
ومن المبالغات ذاتها طيرانه فرحًا بتولّي ولي العهد السعودي، حتى صرّح بأن تولّيه هو "بشرى خير"، وأن السعودية "أصبحت بيد من لديهم الجرأة على إيران، وأنهم يفهمون عمق التحولات في المنطقة، وليسوا مهووسين بالصراع مع الحركات الإسلامية".
هذا ليس مدحًا فقط، بل هو ترويج سياسي، ونزق سياسي، ثم لا يخفى على أحد ما جرى بعد هذا.
ويظهر في الصورة، وهو من الطريف الذي يستحق أن يُذكر على وجه الدهر، كيف أن معارضًا سعوديًا شهيرًا، رأى هذا المديح السخيّ المجازف فضيحةً وخزيًا. ومن المضحك، يا للمفارقة، أن يجتمع المؤيدون والمعارضون معًا على بغضه، والنفور منه. وهذا، كما يقول مولانا الجاحظ، "من أغرب ما يتفق للناس"، فلا من يوافقهم يحبونه، ولا من يخالفهم يميلون إليه. وإنها لعبرة، لمن ينظر ويتبصّر، ويحسب حساب الكلمات التي يطيش بها لسانه بلا ميزان ولا قبّان، فإن الازدواجية وسرعة التقلّب المتطرّفة لا تأتي إلا بمثل هذا.
وفي سياق هذا التهليل المتسرّع غير المحسوب، يرى أن مشاركة موريتانيا في عاصفة الحزم هي "أقلّ الواجب"، في التحالف العربي.
لكنّ العاصفة غيّرت وجهة هبوبها. فانقلب إلى أقصى الطرف وبالمبالغة غير المحسوبة عينها، وبعد أن كانت مشاركة بلده موريتانيا "أقل الواجب"، صار يشمت في أقل الواجب هذا.
وليست المسألة أن يغير فلان رأيه، فهذا طبيعي جدًا ووارد. ولكن المسألة أن ينطلق في رأيه بمبالغة غير محسوبة، ثم ينقلب بمبالغة غير محسوبة كذلك، كاسيًا موقفه "عمامةً" أخلاقية. وهذا كله لا يدخل في إطار التحليل العقلاني للأحداث، وقراءتها بتؤدة وتبصّر، وتغيير الرأي الذي من طبيعته أن يتغيّر عن تأن ودراسة، بل يدخل في إطار "البهلوانية" السياسية باسم الأخلاق (أحسن الله عزاءها وعزاءنا في أستاذها).
ديمقراطية أبي القعقاع
لا يقصّر الشنقيطي في التبشير بالديمقراطية والدعوة إليها، وينفر من الاستبداد غاية النفور. ويطالب بالتعاون مع جميع طلاب الحرية، من جميع الأديان والمذاهب.
لكنه في الوقت ذاته، يهيّج على حلفائه من طلاب الحرية ومحاربي الاستبداد، فضلًا عن خصومه، ناقضًا كل شعاراته البراقة حول الديمقراطية والتعايش، مستخدمًا التحريض الشعبوي والافتراء بأردأ ما يمكن من الوسائل (والشيطان يكمن في التفاصيل، كما يقال). والتبرير الأخلاقي حاضر على طرف الثمام، وأقرب من اليد للفم: "إني أدافع عن الدين"، وهو هو عين الشعار الذي أريقت به دماء كثير من المخالفين في التاريخ أو كادت، وستبقى تراق ما دام في الأمة أمثال هؤلاء المحرضين. وسنرى في المقالة الثالثة أي دين يدافع عنه.
ولا يجد الشنقيطي أي غضاضة من أن يحث على "الحرب الأهلية" في مصر وفي غير مصر، باسم الجهاد، مزايدًا حتى على أصحاب الشأن المبتلَين المضطهدين (ومن ابتلاءاتهم أن ينصرهم مثله)، وهم مع هذا متمسكون بالسلمية، وطالبًا منهم أن يبدلوا منهجم السلمي ليتحوّلوا إلى جهاديين أو دواعش.
وهذا كله طبعًا، لا يعوزه التبرير الأخلاقي لأستاذ الشيزوفرينيا السياسية (وربما بخشوع ودمع مدرار)، إنه يسعى لتحقيق الحرية والديمقراطية، غافلًا (أو متغافلًا) عن إمكان دخول سبعة آلاف تنظيم ومليشيا شيعية وسنية تقتتل فيما بينها، وعن اقتحام القوى الدولية المتصارعة على مصالحها ليتحول القتال من قتال تحرر (كما يتوهم) إلى ميدان لتصفية الحسابات والأطماع والحروب بالوكالة. فإذا المعارك في شوراع الإسكندرية، وأزقة القاهرة، وربما يقذف مهووس الجامع الأزهر بحجة أنه بناه الفاطميون، ويهدم مهووس آخر القبر المنسوب للحسين بحجة أنه لم يثبت تاريخيًا، أو ربما تجتمع فرقة على تدمير الأهرامات وأبي الهول والمتاحف التاريخية بحجة أنها تراث وثني، ويؤخذ أقباط مصر أسرى، وتهدم كنائسهم التاريخية، وتسبى نساؤهم، ويوزعن على المجاهدين ليتسلّوا بهن بعد تعب الجهاد، كما جرى في العراق وغيرها. ثم قد ينتهي الأمر بعد سيول من الدماء والفوضى، إما بتقسيم الدولة، وإما باستبداد آخر!
وحينئذ يأتي الشنقيطي بعد أن أمر بالجهاد في مصر (أي بالحرب الأهلية حقًا وحقيقة)، يكتب من بيته الهادئ، وهو بين أهله وولده، على كرسيّ مكتبه الفخم، تحت شعاع الضوء الخافت، وهو يحتسي الأتاي الموريتاني الأخضر المصنوع بتمهّل وتؤدة، آمنًا مطمئنًا وادعًا ساكنًا، تغريدات قوية مجلجلة (يا للهول) وهو يظن أنه يصنع التاريخ "ولا يكتب حواشيه" كما يردّد في غفلة وسذاجة، يحسب نفسه المجاهد عبد القادر الجزائري أو عمر المختار أو عبد الكريم الخطابي، فيفرد وسمًا (هاشتاغ) بعنوان: #الجهاد_على_بصيرة، ينصح المجاهدين ويوجههم إلى التوسط والاعتدال ويبدي تأسفه على اليتامى والأرامل، ويستنكر سبي نساء أهل الكتاب، وتدمير المساجد والكنائس، ثم يعيد كلامه عن العلاقة بين السنة والشيعة، مستحضرًا نزاع أهل باب البصرة وأهل الكرخ في بغداد و"هوشاتهم" الصبيانية على أساس أنها نزاع طائفي هائل، ظانًا أنه المنظّر العظيم، والجوهر الفرد، الذي سيتلقاه الجهاديون خاشعين متلهّفين ينتظرون رأيه الفاصل في تلك الفوضى التي أمر بها لأنها في عقله الفذ "الموقف الشرعي"، ولن يعوزه المبرر الأخلاقي كالعادة حين يقول: "إنما قصدت الجهاد على بصيرة"! وسيتفنن حينئذ في تغريداته "العظيمة" بالكلمات الشاعرية الإنشائية، مع شيء من السجع البارد، تحت وسم #أدب_التغريد، ثم يرشف رشفة من الأتاي الحلو، ويتأمّل الضوء الخافت مخضرًا آخذًا لون الأتاي الذي يحتسيه باستمتاع، ثم يعيد قراءتها، فتعجبه نفسه وبلاغته، فيبتسم ابتسامة واثقة، حين يأخذ منه الطرب كل مأخذ، ويرددها مرة بعد مرة، فيهتزّ ويحرّك رأسه ويقول هامسًا لئلا يوقظ أولاده الوادعين من منامهم: "أسكي"! (وهي لفظة جميلة يقولها أحبابنا الموريتانيون عند الطرب والإعجاب) في حين يعاني الشعب المصري الذي أراده أن يخوض حربًا أهلية، ويلات الحروب التي غالبًا ما ستنتهي باستبداد بديل وتقسيم، وآلاف المشوهين والأرامل واليتامى والمعاقين والمتضررين وملايين المشرّدين اللاجئين المدفوعين بالأبواب.
هذه الدعوة إلى حمل السلاح في مصر، يراها الشنقيطي (الذي ربما يظن نفسه ابن تيمية أو العز بن عبد السلام) هي "الموقف الشرعي في زمن الزيف".
وهو ما شهد به لحاكم المطيري الذي أفتى بإنزال فتوى ابن تيمية في التتار، أو ما يسمى "الطائفة الممتنعة" على الجيش المصري وعلى الحكومة المصرية، وهي الفتوى ذاتها التي اعتمد عليها الجهادي عبد السلام فرج في قتال الحكومة المصرية زمن السادات، في كتابه "الفريضة الغائبة".
وإذا ثبت أن الموقف الشرعي هو هذه الحرب الأهلية التي يقترحها، فما رأيه في من لم يأخذ بفتوى "لسان الصدق في زمن الزيف"؟ إنه، كما يردد دائمًا، "مفتقر إلى الضمير".
كذا كذا! فالشنقيطي هو الذي يحدّد، بنرجسيةِ ذي الخويصرة واستعلائه، علام تبنى ضمائر الناس، وما فيها من صلاح وفساد، لا لشيء إلا أنهم خالفوه، سياسيًا، فيما يراه هو "موقفًا شرعيًا". إنه هو الذي يحدد ما الموقف الشرعي، وهو الذي يصنّف ضمائر الناس بناء على هذا، فهو الحق، والحق هو، وهو الشرع، والشرع هو، واللاهوت يحل في الناسوت!
ومعنى هذا أن من لا يتفق معه في إشعال الحرب الأهلية في مصر (والتي حتمًا لن ترتضيها الأمة بفطرتها السليمة)، هو عديم الضمير لأنه مخالف لموقفه الشرعي. بهذه المعايير العوجاء وأشباهها يحكم الشنقيطي على الناس، وعلى ذلك فقس.
وتأبى "نرجسيته" المفضوحة التي يزايد بها حتى على المناضلين سياسيًا في الميدان من إسلاميين وغير إسلاميين (كإخوان مصر مثلًا) إلا أن يتكلم، حتى، بلسان الشعوب، فالشعوب تريد الإسلام السياسي للتغيير السلمي، فإذا لم يتحقق، فهي تريد الإسلام الجهادي للتغير بالعنف! هكذا ببساطة، يتكلم بلسان الشعوب ويعبّر عنها وعن مراداتها، من دون نظر إلى الواقع الذي رأيناه ونراه، فكأنه لويس الرابع عشر حين قال بفخر وكبرياء: "أنا الشعب".
إنها، حقًا، ديمقراطية أبي القعقاع؛ "برنيطة" جان جاك روسو، وسيف أبي الزعيزعة! إما الإسلام السياسي، وإما الإسلام الجهادي (أي الحرب الأهلية) ولا خيار ثالث، خيار ماليزيا وتركيا وإندونيسيا على سبيل المثال.
وها هي جماهير الشعب السوداني تخرج في هذه الأثناء على النظام الذي حكمهم ربع قرن باسم الإسلام السياسي، وهذه إيران تحكم باسم الإسلام السياسي ويرى الناس ما تصنع، ونأمل أن يتغير واقعها قريبًا، وهذا هو الشعب الجزائري يخرج إلى الشوارع لا ينتظر من الشنقيطي فتوى سياسية، ولا تغريدات مفرقعة، ولا مزايدات أخلاقية، ولا ازدواجيات وتناقضات فاقعة، ولا عناوين وشعارات وأيديولوجيات تصطنع معارك كاذبة تفرّق ولا تجمّع.
الوثنية السياسية: "أمري إلى الهوى"!
ينقم "أستاذ الأخلاق" المبالغات الفجّة التي تظهر من بعض الناس في بعض الحكّام، ومعه كل الحق في هذا. ويسمّي هذا الضرب من السلوك المقبوح "الوثنية السياسية". لكن من شأن الأخلاق أن تكون ثابتة، فـ "الوثنية السياسية" خلق مرذول، من كل أحد، ولكل أحد، وفي كل زمان ومكان. هذا ما يجب أن يكون أخلاقيًا، من دون تمييز بين صالح وطالح، ومن دون تطفيف في الميزان، وليس أحدٌ معصومًا إلا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.
ينكر الشنقيطي مرةً على المفتي السعودي فتواه في تحريم الإنكار على الأمراء على العلن، وأن هذا من عمل الشيطان، عادًا هذا من "الوثنية السياسية"، مع أن هذا قول فقهي اتفقنا معه أو اختلفنا.
وينكر تارة على مواطن يرى أن العاهل السعودي لو أنجز إنجازاته في عهد النبي الكريم لكان من العشرة المبشرين بالجنة، وهذا، على اليقين، نزق ما بعده نزق، وغلوٌّ لا يليق، وهو عند الشنقيطي "وثنية سياسية".
لكن الطبع يغلب التطبّع، ولا بد لـ "أستاذ التناقضات" من أن يقع في التناقض، كالعادة، فإذا الرئيس التركي أردوغان يُستهدَف بهذه "الوثنية السياسية"، فيصرّح الشنقيطي بأنه لم يجد أحدًا يُبغض أردوغان إلا منافقٌ معلوم النفاق، وهذه مبالغة ممجوجة. وعلى الرغم من أدوار أردوغان الإيجابية، وجهود حزب العدالة والتنمية المُشاد بها؛ فإن الأخلاقيات لا تتجزأ، وإن الموازين لا ينبغي أن تطفف، إلا إذا كنا متناقضين تسيّرنا ازدواجية المعايير. وهكذا، كما بدا معنا مرارًا، يقع "أستاذ التناقضات السياسية" إلى درجة البهلوانية والعبث، فيقع في ما يعيبه هو نفسه، وتؤول أحكامه على الآخرين عليه هو نفسه، وينسى نفسه من "البرّ" الذي يأمر به الناس.
هذه سيرة الشنقيطي "المرضية" (بإسكان الراء وإن شئت فافتحها) في عالم المواقف والأفكار، كما هي في عالم الأشخاص، سيرةٌ من التناقضات، والقفز البهلواني، والتبريرات الأخلاقية الجوفاء، والأنا المتعظّمة الهوجاء، والمبالغات العجلة الرعناء. فهو ليس "أستاذ الأخلاق السياسية" فحسب، بل هو، اللهم لا حسد، أستاذ التناقضات والشيزوفرينيا الأخلاقية والسياسية. وفي الأسبوع المقبل إن شاء الله، سنتكلم عن جانب آخر من ازدواجيته التي هي من صفات الذات اللازمة له، لا من صفات الأفعال، في مصطلح "تمسيح الإسلام" الذي أطلقه عليّ وعلى غيري، بحجة "الدفاع عن الدين". أما كيف اجتمعت هذه التناقضات كلها في شخص واحد؟ فعلم ذلك عند الله!
ليس على الله بمستنكَرٍ .. أن يجمع العالَم في واحدِ
اقرأ/ي أيضًا:
برنامج "قراءة ثانية".. جدل كاشف
العنف والسياسة.. مقاربات نقدية