رأيته للمرة الأول قبل ثلاثة عشر عامًا داخل غرفة الديسك المركزي لجريدة اليوم السابع، كانت ضخامة بنيانه كفيلة بأن تجعله أول ما تقع عليه عينيك رغم تواجد كثيرين غيره في الغرفة الواسعة. للوهلة الأولى حاولت تجنبه وصرف بصري عنه إلى أشياء أخرى خوفًا ومهابة، لكنه لم يمتعني بهذه الفرصة للهرب وأشار إليّ بيده مستدعيًا. نظرت يمينا ويسارا لأتأكد أنني المُستدعى، فأكد لي ذلك بإشارة جديدة.
ستبقى سيرة محمد منير ما بقي تلاميذه "وما أكثرهم"، وسيبقى ما قاله في الفيديو الأخير قبل القبض عليه، "مفيش حد قرب من مقابلة ربنا هيخاف من عبيد ربنا"، مصدر فخر لبناته وأحفاده
سألني عن اسمي وما أفعله هنا ومن أي محافظة أتيت والصحف التي عملت بها سابقًا، ومع كل إجابة كان يفتح صندوقًا من صناديق ذكرياته ليحكي عمن قابلهم هناك وعن أصدقائنا المشتركين بطريقة شديدة الخصوصية تخلط تفصيلة شخصية شديدة البساطة بالسياسة والجغرافيا والتاريخ والفن والثقافة، وتغزل منها حكايات يمكن أن تتحول إلى سلسلة وثائقية دون مجهود.
اقرأ/ي أيضًا: الصحافة في مصر.. تهمة كافية!
في هذا اليوم عرفت محمد منير، حفظت اسمه سريعًا على غير العادة لأنني ربطته باسم المطرب محمد منير، ولاحقًا أصبح محمد منير المطرب هو الذي يذكرني بمحمد منير الصحفي!
كان منير قادرًا على ملء أي فراغ، ينشر طاقة إيجابية لا تنضب في أي مكان وظرف يتواجد فيه مهما كان موحشًا، حين اقتُحمت نقابة الصحفيين واعتصمنا في مقر نقابتنا محشورين بين الحزن على زملائنا والخوف من القادم، كان العامود الذي يجلس عنده قبلة الباحثين عن الأمل، نذهب إليه محملين بالتوتر والقلق، فنعود مشحونين بالتفاؤل والثقة.
الآن رحل محمد منير، خبر يلقي في النفس وحشة واضطرابًا، لكن الطريقة التي رحل بها والطريقة التي سارت عليها سنوات عمره الأخيرة تضيف إلى الوحشة والاضطراب حزنًا وغضبًا، هذا الصحفي الكبير قضى سنواته الأخيرة بلا مكان يستوعبه ويستفيد من إبداعه، فقط لأن له رأيًا لا يروق للسلطة ومن يدورون في فلكها.
محمد منير كان معارضًا مصريًا وطنيًا لا تشوب نصاعة ثوبه شبهة تربح من مواقفه أو فساد ذمة، من يكرهه يعرف هذه الحقيقة قبل من يحبه، ومن لا يعرفها رأى فيديو اقتحام الشرطة لشقته ورأى كيف يسكن هذا الصحفي الكبير في عمارة متواضعة وشقة ربما يملك من ينتمون إلى الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى أفضل منها.
ما الذي فعله محمد منير ليقضي سنوات عمره الأخيرة ممنوعًا من العمل، ويقضي أسابيع عمره الأخيرة بين السجن والبحث عن مستشفى؟ ما الذي أودى به إلى الاعتزال الإجباري والمحاصرة في الرزق سوى أن له رأيًا مختلفا؟ وما الفارق بين الإقصاء باسم الدين والإقصاء باسم الوطن؟ ومن أوحى لهم بأن الوطن يريد ذلك؟ ومتى سنتعلم أن وجود مختلفين بيننا سُنة كونية وحتمية تاريخية ومستقبلية وأن وطنًا كبيرًا مثل مصر يستحق أن يكون حيًا متنوعًا لا مجرد مصنع ينتج نسخًا متطابقة تردد كلامًا واحدًا؟
الأكيد أن أمثال محمد منير يسعدون في حياتهم الأخرى. هو رجل أفنى عمره في إسعاد الآخرين ولم يبخل عليهم بعلمه ولا بقلبه، ثم عاش ومات محافظًا على مبادئه مخلصًا لأفكاره محبًا لوطنه. إن كان هناك حزن فهو علينا نحن أن فقدناه، وأن المشهد الأخير الذي رآه من مصر جاء بخلاف ما كان يحلم به.
ستبقى سيرة محمد منير ما بقي تلاميذه "وما أكثرهم"، وسيبقى ما قاله في الفيديو الأخير قبل القبض عليه، "مفيش حد قرب من مقابلة ربنا هيخاف من عبيد ربنا"، مصدر فخر لبناته وأحفاده، وستبقى سيرته الذاتيه من معلومة واحدة كما اختار هو لنفسه "محمد محمد منير يوسف.. شارك بصدق وإخلاص في ثورة 25 يناير".
اقرأ/ي أيضًا: