يُخصص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعية، كل جمعة، للفنّ التشكيليّ كي يحدّثنا أهله عن عوالمهم ومعنى أن نكون فنّانات وفنّانين. إنها محاولة لاكتشاف التجارب عبر العودة إلى بداياتها، والوقوف على تحولاتها وما ظل ثابتًا فيها، مما يجعلها مقاربة للسيرة، أو نبشًا في خلاصتها.
هاجر مصباح فنانة تشكيلية وباحثة أنثروبولوجية من المغرب. تحضّر لأطروحتها في "المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية" في باريس، وتشتغل في أبحاثها الأكاديمية على الفن والتصوف، خاصةً ظاهرة رقصة الدراويش وانتشارها في فرنسا. تستلهم أعمالها الفنية من مواضيع متعددة منها الفلسفة، والروحانيات، والفانتازيا، والحكايات الخرافية، وكذلك مواضيع مجتمعية مرتبطة بالتعدد الثقافي والديني، وقيم العيش المشترك.
- متى وجدت نفسك فنانة؟ وما الذي يعنيه ذلك؟
أصبحت فنانة بسبب إحساسي بالعجز والخوف، ولهذه الحالة قصتين؛ الأولى: حينما كنت طفلة صغيرة، في المرحلة الابتدائية، كنت أكره مادة التربية التشكيلية. كانت تلك المادة بمثابة عقاب لي. وذات يوم، طلبت منا المعلمة أن نرسم "فيلًا" كواجب منزلي، وأن نحضر لها الرسمة بعد العطلة.
في أيام تلك العطلة، جاءت لزيارتنا صديقات للعائلة وهن ثلاث فتيات عراقيات يعشن في المغرب منذ مدة. كنّ يأتين لإمضاء بضعة أيام معنا من العطلة للعطلة. وجدتني إحداهن حزينة وأبكي لأنني لا أعرف من أين أبدأ هذه الرسمة ولا كيف أنهيها أيضًا. قالت لي: لا تبكي من العجز وأنت لم تحاولي أصلًا، امسحي دموعك وهيا نبحث عن طريقة لنتعلم رسم الفيل. طلبت مني أن أُحضر كل المجلات والكتب، وأخذنا نبحث بداخلها عن رسم أو صورة فيل، فوجدناها داخل "مجلة ماجد"، التي كنت أصلًا من محبيها.
علمتني حينها أن أنقل الصورة بوضع ورقة شفافة فوقها ثم أُعيد نقلها على الورقة. قالت لي: هذه التقنية ليست غشًا كما يعتقد البعض. كل الفنانين في البداية بدأوا بالتقليد. ثم علمتني بعد ذلك أن أحاول رسمها لوحدي دون الاستعانة بالورقة الشفافة، وذلك بتحول الرسم وتفكيكه إلى أشكال بسيطة، مثل المثلث والمربع والدائرة.
كانت هذه التقنية بمثابة اكتشاف عظيم لعقلي الصغير، ومنذ ذلك اليوم صرت أُعيد رسم كل ما أقرأه في المجلات، وأُعيد رسم كل صورة أمامي. لم تكن رسوماتي الأولى مثالية، لكنني صرت أستمتع بالتجربة. وهكذا صار الفن بالنسبة لي وسيلة لتجاوز العجز والجهل. تعلّمت من هذه التجربة أنه يمكنني تعلّم أي شي، يكفي أن أفكّر وأبحث عن الطريقة التي تُتيح لي تبسيط هذا المجال، وبالتجربة والعمل المستمر سأتقنه.
القصة الثانية كانت أيضًا مؤسِّسة ولها وقعٌ مهم في استمراري وتعلّقي بالفن والرسم. ذات يوم، قامت بنات خالي بالتآمر عليّ، وقد اخترعن قصة واتفقن عليها. قالت الأولى: أوه يا هاجر، لو تعرفين! لقد رأينا في المرحاض خيال عين ترمس ويد تُشير إلينا. وقالت الأخرى: أنا أيضًا رأيتها. والثالثة: أنا أيضًا.. وبما أنني كنت دات خيال واسع جدًا، وكنت ساذجة نوعًا ما، صدّقت كل ما يُقال.
أصابني رعبٌ شديد من مرحاض دار جدي، فكنت لا أدخله إلا إذا كانت الضرورة ملحة لا أستطيع لها صبرًا. وصارت بعض الهواجس تجتاح خيالي، فصرت أتخيل أحيانًا أن خيال تلك العين التي ترمش تُلاحقني أينما ذهبت. أراها ورائي تطفو وتراقبني.
وذات يوم استجمعت قوتي، أمسكت ورقة ورسمت عينًا وقلت مخاطبةً ذلك الشبح: أيتها العين التي تُخيفني من وراء ظهري، سأواجهك الآن.. ها أنت الآن أمامي، لن تخيفينني بعد اليوم. ومنذ ذلك الوقت، صرت أرسم عيونًا دون توقف، وصرت أحب تأمّل العيون وقراءتها كأنها نافذة نحو أرواح من أقابلهم.
كان الرسم طريقةً لمواجهة خوفي وهواجسي، ولا يزال الرسم والفن ملاذًا لي كلما ضاقت بي الأحوال وانقبض قلبي. أجد فيه تعبيرًا عن مشاعري، عن غضبي، عن حزني، وحتى عن فرحي. صار الفن طبيبي النفسي وصديقي الذي أُفضفض له عن أحوالي.
يُعجبني سرد هاتين القصتين لتلاميذي حينما أقدّم لهم ورشات فنية لأعلمهم أنه لا شيء مستحيل، وأنه يجب علينا المحاولة والمحاولة والبحث عن طريقة للتعلّم وعدم الاستسلام لفكرة: "أنا لا أعرف كيف أفعلها، إذًا لن أجرّبها". إن الفن هو تجربة، هو ملاحظة وفَهم، وهو أيضًا لعبٌ واستمتاع. من لم يجرّب لن يتعلّم.
- ما هو الشكل الفني الذي انشغلتِ فيه؟ ولماذا هو بالذات؟
أنا إنسانة فضولية جدًا، وأحب تجربة مختلف الأدوات والمواد والخامات والستيلات. بدأت بقلم الرصاص، ثم صرت بعدها أشتغل بالإكواريل والإكريليك. وحينما انتقلت للعيش في فرنسا من أجل إتمام دراستي العليا في تخصص السياسات الثقافية وسوسيولوجيا الفن، اشتغلت بعد تخرجي كمديرة فنية في جمعية اسمها "Mix Art"، وهي جمعية متخصصة في فن الشارع. وفي هذه الجمعية، تعلّمت الاشتغال بأداة "السبراي" أو "الرشاشة"، وصارت الآن الأداة الأساسية التي أشتغل بها.
أشتغل في هذه الجمعية منذ عام 2018، وقد قمت بتسيير وتنشيط أكثر من خمسين ورشة فنية في مختلف أنحاء فرنسا من أجل التعريف بفن الشارع وتقنياته، ورسم الجداريات مع التلاميذ. كما أنني تخصصت أيضًا في التعامل مع فئة الشباب والمسجونين، وقمت بتنشيط أكثر من عشرين ورشة فنية في السجون الفرنسية المختصة بالقاصرين ذكورًا وإناثًا.
هذه التجربة الفنية منحتني قدرات تقنية للرسم والعمل على مشاريع فنية، لكنها أيضا منحتني مهارات بيداغوجية وتربوية تُعينني على تسيير المجموعات، ومشاركة شغفي مع الأطفال والشباب، كما أنني أسهر على وضع معاني جميلة في كل عمل فني نشتغل عليه، ليكون له معنى ووقع على أرواحنا وأرواح من يرى أعمالنا.
لكن حياتي الفنية لا تقتصر فقط على الورشات التي أشاركها في إطار هذه الجميعة، إذ لدي أيضًا أعمالي ومشاريعي الفنية الخاصة، التي هي نابعة من أفكار ومشاريع بنيتها واستلهمتها.
- هل هناك نقاط تحوّل أثّرت بإنتاجك، سواء كانت أعمالًا فنية أو أشخاصًا أو كتبًا؟
أغلب أعمالي مستلهمة من الروحانيات، من التصوف، ومن الفلسفة والقصص والخرافات. أنا أعشق الخيال والحكايات وأحب العوالم الغريبة والمغامرات الشيقة. شغفي هذا ورثته عن جدتي رحمها الله، حيث كانت كل ليلة قبل النوم تحكي لي الحكايات. وللأسف، لا أتذكر من حكاياتها سوى العنوان لأنني كنت دائمًا أنام في منتصف القصص.
أبي رحمه الله أيضًا كان نافح القصائد بداخل قلبي، وكان محفزًا كبيرًا لخيالي. كان أبي أستاذ فلسفة، وكان يحفزني على التفكير والخيال. لكنني ورثت في الحقيقة حب الألوان والجمال من أمي. كانت أمي تحب الطرز على الأثواب، وكانت تقوم أيضًا بصنع الديكورات وتنسيق الورود وتشتغل بالكثير من الأعمال اليدوية، ومن حبها للجمال تعلّمت الجمال.
- إذا كان العمل الفني لغة بصرية، فما هي مفردات هذه اللغة؟
الفن هو لغة الروح، ومفرداته هي الشغف والتجريب والمحاولة، الملاحظة والتأمل، اللعب والاستمتاع. لا بد من فتح القلب والعين وكل الجسد والروح، وترك الذات تنساب مع الإلهام الذي يغني لها لترقص معه.
إن الفن هو رحلة، هو رقصة. وإن أعز لحظة بالنسبة لي هي لحظة الإبداع أكثر من لحظة النتيجة. في البداية، أستمتع بتأمل بياض اللوحة والورقة، ثم في لحظةٍ أشعر بها في داخلي أعرف متى أبدأ أول الخطوط وأول الألوان. حينها أقتحم البياض كمحارب مقدام.
وحينما أدخل حلبة الرقص تلك، فأنا لا أخرج منها إلا وقد أنهيت عملي. قد يستغرق الأمر مني أحيانًا سبع ساعات عمل متواصل دون توقف، لا أدري حتى كيف مرت تلك السرعة الرهيبة، فهناك لا وجود للزمن. وفي تلك اللحظة الإبداعية، أشعر أنني غير موجودة أصلًا.
- هل يعتمد منتجك الفني على الاستيراد من العالم الخارجي أم على التصدير من عالمك الداخلي؟
أعمالي مزيجٌ من الداخل والخارج. منذ بضع سنوات وأنا أشتغل على مشروعين فنيين أساسيين؛ يهدف الأول للتعريف بقصة "حي ابن يقظان" لابن طفيل. والثاني تناول فني للرواية الصوفية "منطق الطير" للشاعر الفارسي فريد الدين العطّار. قمت بتحويل القصتين إلى لوحات فنية، جداريات، وورشات فنية وكذا عروض رسم أمام الجمهور، أقرأ فيها مقتبسات من هاتين الروايتين، وأرسم أمام الجمهور باستعمال أدوات فن الشارع.
كما أنني أشتغل أيضًا على مشروع أسميته "etat d'ame" (حالات روحية) أعبّر فيها عن بعض الخلجات النفسية بشكل خيالي ورمزي. هي طريقة أُفضفض فيها عما يتملك روحي وقلبي من مشاعر وأحاسيس وأمال وخيبات وحب.
- ما الذي تغيّر فيكِ؟ وما الذي ظلّ ثابتًا؟
إن الله تعالى قال في وصف نفسه بأنه: "كل يوم هو في شأن". فإذا كان الله الثابت الأزل هو أيضًا في حركة دائمة، فما بال الإنسان الفاني البسيط مثلي حاله متقلب يساير الكون وفصوله؟ إن الفن والإبداع يساعدني على مسايرة جريان الماء والهواء. إن الابداع يجعلني على قيد الحياة، يعطيني الإحساس بالثبات والحركة كرقصة درويش، يد ممتدة إلى أعلى تطلب المدد، جسد يدور في اتجاه القلب حول نفسه بلولبية كما الكواكب والأقمار، ويدٌ أخرى ممتدة نحو الأرض توزع ما تلقت من السماء من خير.