طحالب تنمو على نحو غريب في زوايا السقف، رائحة الرطوبة تملأ المكان، خلايا مترسبة من الحريش الميت، كانت كلمات صديقي الذي سُجن مؤخرًا لا تفارقني. أوصاني بالاحتفاظ بدفتر مذكراته أثناء زيارتي له، كان مصابًا بمرض خطير، أوضح لي أنّه لم يعد في الحياة من شكل للسجن أو العتق منه، حيز بمساحة ضيّقة تتخذ شكل جلسته القرفصاء.
في كل حين يعيد النظر في ترتيب وضعية قعدته المُتعَبة، يعيدها كي يحظى بمدى أوسع ولو بثقب صغير في الجدار. نور القمر يداعب خطوط جسده النحيل، كمرور الملائكة، نور خان الظلام القاتم، يرسم من ذلك الضوء الخافت، بأصابعه المتيبّسة صورًا متحرِّكة عبر ظلاله على الحائط، أشكالًا هزمت القضبان وعانقت الذاكرة "حمامة اعتادت نقر نافذة منزله والتي تنثر رائحة سريره الصباحية".
رغيف من الخبز الأسمر تيبّس في ثلج حنينه، صرت أكره أواني الطهي ورائحة الطعام المطهيّ، باتت أصوات الطيور تفترس مسامعي، صرت أرى المسافات خانقة أصغر من حقيقتها. كان يمكث في سجن ما في مدينتي الحالمة، في عتمة رسمها بكلمات أضحت أجزاؤها واضحة في مخيلتي.
كان السجّان يراقب عذابه باستمتاع، ويسهر عليه، أمست عيناه الضامرتان ظلالًا من العتمة، يجلس بوتيرة ضجرة وباردة تثير الصمت، على طاولته علبة من البيرة الرخيصة، وقداحة، وقيود حديدية متينة تصطاد الزمن، بهمسة تبدو أسنانه التي تغطيها طبقة من النيكوتين، يشير إلى الجميع بالالتزام بالصمت.
حروفه جعلتني أكره الأماكن المقفلة، أعجز عن فكّ الحصار حول فوضى ولدت في ذاتي، قيودُ عنفٍ سرقَت مني الأماكنَ وشتتتها. ضاعت مواطن رغباتي التي أحببت، وبتُّ أمقت الأشياء فيها، لم أعد أرى الجدران تبتكر حكايات التمرد، باتت مغلفات لرسائل وجمل ليست ذات معنى.
تلك المذكرات كانت تغشي عينيّ المالحة. كنت واقفة وسط نواح ذويه الصاخب، يرثون رحيله، حاملين جسده بعد صلاة أخيرة. رحل صديقي دون أن أطال خياله بكسرة خبز، أو أمده بحمامة بلحم ودم، فتغتال صمته المنعزل، أو أهديه عصفورًا فينقر نافذته كل صباح. كلانا خسرنا مغامرة خيالنا. يبدو أن شواطئ أحلامنا رحبٌ متزايد للكثير من الغرقى.
اقرأ/ي أيضًا: