تعكف ماكينات الإعلام المتصهين العربي على ترويج تصوّرات خطيرة عن الصّراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين عبر اللعب على المكشوف وبعدّة مستهلكة، إلا أنها رغم ذلك لا تعدم التأثير ولا يمكن الاستهانة بها أو الاكتفاء بشجبها والتعويل على وعي الناس وحساسيتهم تجاه القضيّة. فبعد الحديث القديم الجديد في الدوائر الغربية وبعض الدوائر العربية عن "تعقيد" المسألة الفلسطينية وتصويرها على أنها لا حلّ لها، وصلنا، في هذا الشهر الكريم، إلى صفاقة قناة mbc التي تروّج لجدال تطبيعي ساخط وهجوميّ غير متردّد، يرغو بلا خجل بفكرة مفادها أن زمن الفلسطيني قد انتهى، لأنه استنفد فرصه، وتنكّر للجميل، وهو في النهاية من "باع" و"قبض" بزعمهم، وأن الوقت قد آن للسعودية الرسميّة أن تستدرك ما فات وتلحق بركب دولة متقدّمة "عاقلة" مثل إسرائيل، وتستبدل بها الفلسطينيين الذين لا يتورعون عن التهجّم عليها عند أدنى فرصة، على حد زعم راشد الشمراني في ذلك المقطع الرخيص.
تلعب mbc وذباب تويتر في السعودية على معطىً بسيط تمنحه اللغة والشاشة، وهو القدرة على إملاء البداهات أو قلقلتها
إن شاشة mbc لم تنطق إلا بلسان جيش الحسابات الإلكترونية السعودي على تويتر، والذي سبق الحلقة وأتبعها بترويج وسوم هدفها الواضح هو استمراء التخلّي عن فلسطين، وطمس مركزيتها العربية والإسلامية، والتجاهل لمخططات تهويد أرض عربية عن بكرة أبيها، في سياق مواصلة تنفيذ صفقة ترامب-نتنياهو وضمّ الضفّة الغربية المرتقب، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من دولة إسرائيل.
اقرأ/ي أيضًا: MBC في رمضان... شاشة الذباب
هنا تلعب mbc وذباب تويتر في السعودية على معطىً بسيط تمنحه اللغة والشاشة والسوشال ميديا، وهو القدرة على إملاء البداهات أو قلقلتها، وهذا طبعًا هو ديدن الدولة وأحد مقوماتها الحديثة، كما أنه أحد إمكانات التأريخ الذي تتحكم به غايات مشروع سياسي مفضوح، هو في حالتنا هذه مشروع متصالح مع التصور الاستعماري الصهيوني المتطرّف عن فلسطين، الذي يجعل من كل مشروع مقاومة دولة إسرائيل والاستيطان الإحلالي فيها منذ البداية خطأ مؤسفًا يجدر بالعرب والفلسطينيين الاعتذار عنه. فبحسب هذا الخطاب في هذه البروباغاندا المحمومة، لا يكون الصهاينة سوى "عائدين" إلى أرضهم لإقامة "إسرائيل" التوراتية، والمملكة الأخيرة، وهو بزعم بعض أبواق هذه البروباغاندا من إعلاميين سعوديين حقّ ينبغي تفهّمه والتريّث قبل الحكم عليه.
هذا المتصهين العربي، يؤدّي دورًا يفوق المطلوب منه، وهو موغل في التصهين، حتى بات يصدّق "النبوءة" التوراتية، وينظر إلى جانب أخيه الإسرائيلي بعين واحدة إلى السماء ليباركوا معًا تحقّق هذا الوعد، في مقاربة انهزامية ومجانية لتاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي برمّته، بالتوازي كما هو معلوم مع مناهضة لأي حراك ديمقراطي حقيقيّ في العالم العربي، وقمع كل أصوات الإصلاح المعتدلة، وسجنها، بل وتعذيبها وتشريدها وقتلها، في انسجام آخر مع دولة الاحتلال في معاداتها للمشاريع الديمقراطية في المنطقة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2010.
هنا تنخسف اللغة و"تتأروَل"، فيُنسى الإرهاب الصهيوني وعمليات التطهير العرقيّ الممنهجة ضد الفلسطينيين، ويصبح الفلسطينيون مجرد عرب تقاطروا إلى فلسطين من دول الجوار للوقوف بوجه موجات الهجرة اليهودية، فيسقط حقّ العودة، وتصعد في مقابله دعوات لإحقاق مظلمة اليهود العرب في الكويت والعراق وسواها، متسلّحين بخطاب التسامح ونبذ التعصّب، الذي طفق “مطوّعة" ابن سلمان الجدد يستدعونه فجأة، حتى بات خطاب "التسامح" هذا بئرًا يُنسى في غيابتها كلّ حقّ، ويُغلق به الباب على كلّ مقاومة ضد محتل أو أي مشروع تحرّري ينشد العدالة والديمقراطية.
اقرأ/ي أيضًا: في زمن ما بعد التطبيع
ما تهدف هذه الحملة إلى تحقيقه اليوم، هو إسقاط القضية الفلسطينية من خانة الثابت، نسبيًا، في الوعي العربي وتحويل الإسرائيليّ على شاشات عربية إلى منتصر طبيعي بقوة الأمر الواقع، أو مجرد مستوطنٍ راغب بحياة جديدة، أو صاحب مظلمة ما كانت لتحدث لولا تعنّت العرب، أما الفلسطيني فأمامه جردة حساب أمام نظيره السعودي بحسب ما يتخيّل للقناة، والذي يبذل الإعلام السعودي بالتوازي مع حملات ذبابه على تويتر، إلى إخراجه من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي وتحييده عن دعم القضية الفلسطينية في أحد أشد منعطفاتها حساسية ودقّة.
تهدف هذه الحملة إلى إسقاط القضية الفلسطينية من خانة الثابت، نسبيًا، في الوعي العربي وتحويل الإسرائيليّ على شاشات عربية إلى منتصر طبيعي بقوة الأمر الواقع
وإن تكرار هذه الأفكار المسخ وإعطاء فسح لها على شاشات التلفاز والإنتاجات الدرامية، رغم سخافتها وما فيها من "ردّة مخزية وسوأة مخجلة" على حدّ وصف وليد سيف في مقاله الموجز اللاذع لرسائلها التي تتراوح بين الدناءة والفجور، قد تعمل عمل السحر لدى عامة الناس، عبر تكثيف ضخّها وتكرارها، وغياب معادل دراميّ لها في حجم تمويلها وجماهيريتها عربيًا، فتوقظ شعورًا واهمًا بـ"تضحية" راحت سدى على من لا يستحقها، وتسترذل أي موقف ثابت إزاء القضية الفلسطينية والاحتلال.
اقرأ/ي أيضًا: