حالة الهلع التي أصابت الكثيرين منذ الإعلان عن مسلسل "أم هارون"، واعتباره محاولة لتغيير الصورة الذهنية عن العدو الإسرائيلي، باستعادة تاريخ الوجود اليهودي في الجزيرة العربية ومنطقة الخليج، مفهومة ومبررة ضمن مناخ عام سياسي يدعو للتوجس والقلق، فالتطبيع كما وصفه البعض يبدو وكأنه فيروس هناك نشاط حثيث لنشره على أوسع نطاق، وجاء مسلسل "مخرج 7"، والذي بالمصادفة غير البريئة، يعرض أيضًا على "MBC"، ليؤكد هذه المخاوف بعد أن فاجأ المشاهدين بالحديث بوضوح عن ضرورة نسيان القضية الفلسطينية والتطبيع مع إسرائيل، صار الأمر يبدو وكأن ما يحدث يرقى إلى مستوى "جائحة" تطبيع، تعمل عليها عدة أذرع إعلامية مرئية ومكتوبة وشخصيات تدعى "بالمؤثرة".
ثمة ما يرقى إلى مستوى "جائحة" تطبيع في العالم العربي، تعمل عليها عدة أذرع إعلامية مرئية ومكتوبة وشخصيات تدعى "بالمؤثرة"
مسلسل "أم هارون" ييدو رصاصة تطبيع طاشت ولم تصل هدفها، فقد كان يريد أن يبدو، على ما أظن، مسلسلًا متوازنًا في طرحه وبريئًا من تهمة التطبيع بتقديم عمل من بطولة شخصية يهودية عاشت في دولة خليجية، ولكن يبدو أن المكر السيئ يحيق بصاحبه فعلًا، فكل ما فعله الكاتبان والجهة المنتجة لتمرير فكرة أن العمل مجرد استعادة بريئة لتاريخ جماعات يهودية سكنت المنطقة، عبر عدم تحديد مكان ما أو بلد معين للأحداث، ووضع مشاهد ساذجة عن تعاطف أبطال العمل بكل طوائفهم مع قضية فلسطين، جعل المسلسل مجرد حلقات وأحداث مشتتة بلا معنى ولا قيمة درامية حقيقية ، فالكويت مثلًا لم تنكر وجود يهود على أرضها، وهناك كتب أهم بألف مرة من المسلسل تتحدث عن تاريخ وجودهم في الكويت والمنطقة، وأستشهد بالكويت تحديدًا لأنها هي المستهدفة على ما يبدو من المسلسل، فهي الدولة الخليجية الوحيدة التي تقاوم التطبيع على المستوى الرسمي والشعبي، وبطلة العمل حياة الفهد لا أظن أن اختيارها جاء مصادفة، فبسبب اسمها ظن البعض للوهلة الأولى أن المسلسل كويتي.
اقرأ/ي أيضًا: MBC في رمضان... شاشة الذباب
الفانتازيا التاريخية التي قدمها المسلسل كانت من نوع خاص جدًا يمكن وصفه باللهو التاريخي! فهو عبث بالتاريخ أضيفت له قصص غراميات أبناء وبنات الحارة "الفريج" مع تقسيم ديني لسكان هذا "الفريج" الخليجي الخيالي الذي سيعلمنا المؤلفان من خلاله تاريخ التعايش الاجتماعي بين الأديان، على طريقة مسرحيات مدارس المرحلة الابتدائية، التي تحمل كل شخصية فيها يافطة تعريف عن نفسها لتقدم أمثولة للأطفال الأبرياء أو المشاهدين السذج، مع إضافة جمل إنشائية وشعاراتية في الحوار على لسان أبطال العمل ومن دون أي مبرر درامي، تتحدث عن حبهم لبعضهم البعض وتشاركهم المناسبات الاجتماعية من دون الالتفات إلى الاختلافات الدينية. سكّان فريج أم هارون شخصيات مسطحة بلا أبعاد تستنطق ما وراء التكوين الثقافي والديني والاجتماعي لهذه الشخصيات، فعلى سبيل المثال الحاخام اليهودي أو الملا المسلم أو رجل الدين المسيحي كلهم شخصيات متشابهة ترتدي أزياء مختلفة مع شعارات دينية حتى لا ينسى المشاهد المسكين أن كل واحد منهم يمثل دينًا. شخصيات المسلسل مجرد نواقل كلامية تحاول أن تصنع مجتمعًا صغيرًا به صراع بين رغبات أفراد، ولا أظن أن المشاهد سيذكر حوارًا مهمًا واحدًا يعلق في ذاكرته من المسلسل. ويبدو أن محاولة إيجاد تقاطعات بين خطوط الأحداث الفرعية في المسلسل كانت صعبة على المؤلفين، فأوجدا شخصية تنتقل بين شخصيات المسلسل لتخبرهم ماذا يجري في الطرف الآخر لتحرك الحدث، وهي شخصية زنوبة "خبلة الفريج" ووكالة أنبائه المتنقلة، ولا أفهم كيف تكون "خبلة" ولها كل هذه المهارات في جمع المعلومات وبيعها للمستفيدين منها، وما المبرر الدرامي لأن تكون ضعيفة عقليًا إلا إذا كان المؤلفان والمخرج يظنون أن خفة الدم لا تكون إلا بالهبل؟! أما الشخصية المركزية "أم هارون" فقد قدمها المسلسل على أنها شخصية بلا دين تقريبًا! فهي يهودية ومسلمة في آن واحد، من باب التعايش الديني الذي يشجع عليه المسلسل على ما يبدو! ولأن النص ضعيف ومن أجل إبراز دورها المحوري في المسلسل الذي يحمل اسمها، فقد أصبحت "قوة التدخل السريع" في أغلب الأحداث، فهي المنقذة والناصحة والموبخة لمن يخطىء، وبيتها هو ملجأ الفارين والحزانى والمكسورة قلوبهم.
لن أتحدث عن الأزياء والتفاصيل وحريات النساء اللافتة في هذا المسلسل لأنه هرب من المساءلة والدقة باختيار "الفانتازيا التاريخية" ويكفي أن المشاهدين يعرفون تمامًا ثقافة المجتمع الخليجي وتراثه في زمن الأحداث ورصدوا بدقة عبر تعليقاتهم على السوشال ميديا كل الأخطاء في العمل.
"القطيع" الذي يتمتع بمناعة ضد التطبيع، والذي اشتمَّ فورًا أمرًا مريبًا من عرض المسلسل، يرفض استعباطه وهذه هي كل الحكاية
عندما بدأ الجدل حول المسلسل كنت غاضبة فعلًا، ولكنني كنت ميّالة للتريث ومشاهدته قبل الكتابة عنه، وجلست لمشاهدة الحلقات لتعقب التلميحات والأحداث والحوارات الصريحة والمدسوسة بين تفاصيل العمل التي ستجعل المشاهد يتقبل، كما يفترض، فكرة التطبيع، ولكن بعد متابعة عدة حلقات شعرت فعلًا بالشفقة على نفسي لإضاعة وقتي بمشاهدة عمل ساذج، وشعرت بالشماتة بكل صراحة بمن أنتج العمل وأنفق عليه كل هذه الأموال، متخيلًا أنه سيحدث اختراقًا مهمًا في وعي المشاهد يجعله يتقبل التطبيع، بتذكيره أن اليهود سكنوا منطقة الخليح العربي قبل أن يغادروها طوعًا أو قسرًا إلى إسرائيل أو دول أخرى في العالم. وكلما حاولت أن أُنحي الشكوك جانبًا في مقاصد هذا العمل، تذكرت أن توقيت عرضه مؤشر لا يمكن إغفاله. قد يكون مخالفًا لتوقعات الكثيرين المسبقة بأنه عمل "تطبيعي" مباشر، ولكن الأمور تفهم وسط سياقها وزمنها.
اقرأ/ي أيضًا: "مملكة الحجاز".. وثائقي التلفزيون العربي عن نهاية الحكم الهاشمي ونشأة السعودية
وبما أننا نتحدث عما يسميه البعض "فيروس التطبيع" فمهم أن تذكر أيضًا مناعة القطيع، بما أن من يحاولون التأثير في الرأي العام يرون "قطيعًا" يجب أن يساق إلى التطبيع وهو راضٍ ومسرور، بل ويطالب به أيضًا كما في مسلسل "مخرج 7"، والسبيل إلى ذلك إلى ذلك، بنظرهم، يتم بتذكيره أن اليهود كانوا بيننا لولا "السياسة لعنها الله التي فرقت بيننا" وهي جملة ذكرها الملا في مسلسل "أم هارون" بدون سبب معلوم، ولكن هذا "القطيع" لسوء حظهم يشاهد أعمالًا على منصات عرض عالمية، عن اليهود واضطهادهم في أوروبا وطوائفهم الدينية، ولم يصب بحساسية من عرض شخصيات يهودية في مسلسل، كما يحب البعض أن يبرر رفض الجمهور لأعمالهم المشبوهة، فتلك الأعمال على الأقل ذات مستوى عال فنيًا وتقدم تاريخًا قابلًا للنقاش. "القطيع" الذي يتمتع بمناعة ضد التطبيع، والذي اشتمَّ فورًا أمرًا مريبًا من عرض المسلسل، يرفض استعباطه وهذه هي كل الحكاية. ومن الجيد أن كثيرًا من المشاهدين عادوا لقراءة تاريخ اليهود في المنطقة بسبب المسلسل، على الأقل ليعرفوا المعلومة من مصادر موثوقة لا من قصص أم هارون وإم بي سي.
اقرأ/ي أيضًا:
الدراما الخليجية في السنوات الأخيرة.. مسلسلات لصناعة تاريخ آخر