يعيد مسلسل "الندم"، للكاتب حسن سامي يوسف والمخرج الليّث حجّو، المسألة السورية إلى عمق الدراما السورية مرّة أخرى وبطريقة مختلفة، ويقدّمها على أنها قضية إنسانيّة أوّلًا وأخيرًا. فبغضّ النظر عن الموقف السياسي والأيديولوجي الذي يسوقه كلّ من يبرّر رأيه، تبقى القضية قضية الإنسان الذي كان ضحيّةً لكلّ التجاذبات السياسية.
الماضي يؤسّس للحاضر ولا ينقطع عنه. كما أنّ الزمن يسير بشكل دائري أيضًا
ما يميّز العمل هو تعامله مع عامل الزمن، فهو لا يسير بخطِّ مستقيم وصولًا إلى نقطة النهاية. يبدأ المسار من الماضي، ويعود إلى الحاضر. لكنّ هذا الماضي هو الحاضر، والحاضر هو الماضي. وفي هذا استدعاء لما كان وتفضيله على الواقع، وتعبيرًا عن حالة النكران والاغتراب التي يعيشها السوريّ بين هذين الزمنين.
هذا الحنين يحاول أن يخلق زمنًا موازيًا يؤول إلى واقعٍ آخر متخيل. لكنّ ما يحول دون ذلك هو الماضي نفسه؛ فالماضي، الذي يصبح متخيلًا ورومانسيًا عندما يسترجع، هو الأب الشرعي للحاضر. الماضي يؤسّس للحاضر ولا ينقطع عنه. كما أنّ الزمن يسير بشكل دائري أيضًا، وهو ما قيل على لسان شخصيتين من شخصيات المسلسل، الأخوين سهيل وندى في مشهدين منفصلين: "أبوك كان يضربنا، وأبوه كان يضربو، وإحنا بنصير نضرب ولادنا".
اقرأ/ي أيضًا: طلال الناير.. إقامة دائمة في شرايين أفريقيا
ومن هنا تأتي أهميّة أخرى للطريقة التعامل مع الزمن؛ فهو تعامل رمزي لا يتعامل مع الأزمة السوريّة على اعتبار أنها وليدة الحاضر، بل يحاول أن يغوص في الماضي ليسبر غور أحداث الحاضر. كما أنّ الزمن يتعدّى ذلك ليصل إلى مستوى العلاقات بين شخصيات المسلسل، الماضي هو زمن العائلة والأصدقاء والعمل، هو ببساطة زمن السوريّين الجمعي، على العكس من الحاضر الذي يمثّل الخوف والوحدة والاغتراب والموت والعلاقات النفعية.
ومرّة أخرى، يأتي تمثيل الحاضر بالأبيض والأسود كناية عن رغبة جامحة في تجاوز الحاضر، ليحصر الحاضر في ذاكرة الماضي ويمضي.
يطرح راوي المسلسل وبطله "عروة" في مونولوج داخلي يغلب على الجزء الأكبر من زمن الحاضر تساؤلًا مفاده "ماذا زرعنا لنحصد هذا الخراب كلّه؟" ويسافر بين الزمنين جيئةً وإيابًا في سبيل الإجابة. وتتجاوز الرمزيّة في المسلسل رمزيّة الزمن، لتصل إلى رمزيَة الحوارات الداخلية والخارجية، والشخوص وردّات أفعالها وتعاطيها مع الأحداث. يهرب سهيل من سلطة أبيه وطغيانه، ويختار أن ينأى بعيدًا لأنّ قربانه لن يُتقبّل مهما فعل، وهو لا يريد أن يكون في قصتهما مع أبيهما قابيل وهابيل. لكنّ قابيل وهابيل عادا بعد زمن، ورمزيّتهما تجاوزت الأفراد لتصل إلى الجماعة، وفي هذا تدليل على الحرب التي تدور في حمى الحرب الأهلية بين الأخ وأخيه.
في "الندم"، يطرح راوي المسلسل تساؤلًا مفاده "ماذا زرعنا لنحصد هذا الخراب كلّه؟"
تبدأ قصة الماضي من ليلة سقوط بغداد، وتعرض أعمال نهب متحف بغداد، وترسم ملامح الأسى على ملامح عائلة الغول جميعها، بمن فيهم الغول الأب "سلّوم حدّاد". ثمّ تعود مباشرة لسوريا اليوم، اختزالًا للفارق الزمني بين ما حدث في البلدين، تعبيرًا عن عمق المأساة وأملًا في أن لا يكون مآل سوريا اليوم كمصير العراق. وفي هذا أيضًا استحضارًا واستجداءً لما قاله محمود درويش في حيرة العائد: "لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا. ولكن الشقاء الكامل أن يكون حاضرُنا أفضل من غدنا. يا لهاويتنا كم هي واسعة".
اقرأ/ي أيضًا: تيناريوين.. موسيقى الكفاح
يتم التنقّل بين الزمنين على لسان راوي المسلسل عروة "محمود نصر"، الذي تشكّل حواراته الداخلية والخارجية معظم العمل. لكنّه وإن روى الحكاية على لسان أكثر من شخصيّة، إلاّ أنه كان قادرًا على الغوص في أعماق الشخصيات للّتأويل والتنبؤ بما سيحدث وتبريره في ذات الوقت. وهذا ما جعله النبيّ الذي تنبّأ، بقصدٍ أو بغير قصد، بما سيجرّه المستقبل.
في الزمن الماضي، سأل عروة صديقه عن ما تبقّى لكم لغسان كنفاني، وسأل قبل الحاضر ماذا تبقّى لنا نحن. وإن كان سؤال كنفاني وإجابته معروفتين من حيث السياق والإجابة، وإن كنّا نحن الفلسطينيين الذين لم نشهد نكبة فلسطين الأولى، لكنّا شهدنا الضياع الأول لسوريا والعراق، على دراية بما تبقّى لنا اليوم، يتجاوز سؤال عروة، الذي جاء في سياق الحديث عن مشكلة عائليّة، زمن الماضي والعائلة، ليوجّه السؤال إلى السوريين أنفسهم: ماذا تبقّى لنا؟
خاطب العمل للكلّ السوري، لم تكن حكايته موّجهة لجهة معيّنة دون غيرها. وإن تلافى العمل على طول خطّ الحوار التعبير عن موقف سياسي واحد، بل ظلّ يركّز على أن القضيّة إنسانيّة وأنها بحدّ ذاتها اختبار لهذه الإنسانيّة، يجب أن تحكم النهاية بما سيكون، لكن لا يفترض منها أن تكون حتمية، بل مفتوحة على أكثر من سيناريو يعبّر عن انكسار المشهد.
اقرأ/ي أيضًا: