قبل انطلاق ثورات الربيع العربي بشهور قليلة، وبالتحديد في حزيران/يونيو 2010، تظاهر مئات الآلاف في عموم إيطاليا احتجاجًا على خطة التقشف التي وضعتها حكومة برلسكوني، لتستمر تحركات الجماهير الغاضبة وتتصاعد في 12 كانون الأول/ديسمبر 2010، حيث خرج عشرات الآلاف من الإيطاليين في مظاهرات بشوارع روما، معلنين رفضهم لحكومة برلسكوني، قبل تصويت مجلس النواب على تجديد الثقة بالحكومة.
لم تيأس الجماهير الإيطالية في التخلص من برلسكوني وحكومته، وخاضت مسيرة كفاحها حتى قدم استقالته
ينجح برلسكوني يوم 14 كانون الأول/ديسمبر 2010 في الحصول على أغلبية ضئيلة من مجلس النواب لتجديد الثقة بحكومته، لتشتعل المتظاهرات من جديد ضد حصوله على الثقة، ويحاول بعد ذلك المتظاهرون اقتحام مبنى مجلس النواب ومجلس الشيوخ الإيطالي، وتحدث الاشتباكات بينهم وبين قوات الأمن.
بالنسبة لي، كانت تلك المظاهرات ملهمة لأنها تكسر أوهام دعاة شرعية الانتخابات (الصندوق) شرعية كاملة مطلقة لا يجوز الاعتراض عليها، ويجب التسليم لها، وعدم رفض سياسات هؤلاء المرشحين الفائزين حتى لو كانت تتعارض مع قطاع عريض من الجماهير الشعبية، ليتم تجاهل الإرادة الشعبية التي هي أصل الشرعية ومصدرها.
لم تيأس الجماهير الإيطالية في التخلص من برلسكوني وحكومته، وخاضت مسيرة كفاحها حتى قدم سيلفيو برلسكوني استقالته من رئاسة الحكومة بتاريخ 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، ليتم تهريبه من مخرج جانبي للقصر الرئاسي خوفًا من أن تطاله الحشود الغفيرة التي كانت تحاصر القصر.
الدرس الذي تعلمناه من الجماهير الإيطالية الغاضبة أن استمرار الشرعية مرتبط بعوامل متعددة ومتشابكة، منها أن الأداء السياسي والاقتصادي للسلطة يجب تقبله وتبنيه من القطاعات الشعبية المختلفة، وشرعية الانتخاب تكون مرحلة سابقة لشرعية الإنجاز التي يتم خلالها ترجمة شرعية الانتخاب إلى واقع ملموس عن طريق تلبية طموحات وأمال الشعب. والشرط الرئيسي والجوهري لشرعية الانتخاب أن تكون بالطرق الديمقراطية النزيهة، وهذا ما لا يتوفر في الكثير من الدول العربية، وعلى رأسها مصر، خصوصًا بعد فترة الجزر الثوري التي استطاعت خلالها قوى الثورة المضادة من إفشال التجربة الديمقراطية وعرقلة مسارها.
الانتخابات ليست سوى لقطة تعبّر عن الحالة المزاجية للجماهير في وقت معين، لكن الحالة تتغير باستمرار
ويخوض البعض نقاشات حول الانتخابات والثورة، أو بمعنى آخر شرعية الانتخابات والشرعية الثورية، خصوصًا عندما تكون الانتخابات بابًا تستطيع عن طريقه قوى الثورة المضادة الانقلاب على الثورة ومكتسباتها، ويمكن اعتبار البرلمان المصري الحالي نموذجًا لوهم الشرعية "المنتخبة" التي يروج له أتباع النظام، وأنه ممثل للإرادة الشعبية في عملية خداع وتزييف للحقائق المعلومة للجميع، حول كيف تم تكوين هذا البرلمان وإعداده داخل غرف الأجهزة "السيادية"، وعبر تفصيل قانون انتخابي يستطيعون من خلاله التحكم بمجريات الأمور للانحياز والتخديم على خندق الموالاة.
وهنا يشرح المفكر الاشتراكي الثوري آلان وودز أن الانتخابات ليست سوى لقطة تعبر عن الحالة المزاجية للجماهير في وقت معين، لكن هذه الحالة تتغير باستمرار، وهي تكشف بالتأكيد عن بعض الميول السائدة في المجتمع، وكذا تشكل تحذيرًا يجب أن يؤخذ على محمل الجد من جميع الذين يحملون مصالح الثورة في قلوبهم، وسوف تزداد شجاعة أعداء الثورة وسيتجرؤون على الانتقال إلى الهجوم.
وعلى النقيض من ذلك، سوف يشعر الكثير من المناضلين بالإحباط والحزن، وليعلم الجميع أن المشاكل الجوهرية للمجتمع لا تحل عن طريق البرلمانات والقوانين والدساتير، بل عن طريق الصراع الطبقي، وبالمقاييس الانتخابية قد تبدو جماهير البرجوازية قوة هائلة، لكن عندما يصطدمون في الشوارع بقوة العمال والفلاحين والشباب الثوريين تتبخر قوتهم الظاهرية مثل قطرة ماء في موقد سخان.
اقرأ/ي أيضًا: