لم يكن معاوية بن أبي سفيان بحاجة إلى مسلسل تلفزيوني لننشغل به، وهو الذي رحل عن دنيانا منذ 1343 سنة، فالاسم لا يزال من بين أكثر الأطياف تخييمًا فوق رؤوسنا، ونستحضره في مناسبات كثيرة قلما تخلو منها أيامنا: كلما شعرنا (ولكثر ما نشعر) بوطأة الحاضر الكالح، وكلما صفعنا حدث جديد بإخبارنا عن مدى ضعفنا وهزالنا وعجزنا. هنا تعلو أسماء "الماضي المجيد"، بينهم وعلى رأسهم معاوية، عناوين براقة لعصر ذهبي مفقود، ومثالات سامقة نقيس عليها واقعنا ومدى انحدارنا.. والأمر لا يتعلق بفتوحات وانتصارات خارجية وحسب، بل وفي مفاهيم حكم وسياسة وقواعد ضبط: "الشعرة التي إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها، فلا تنقطع أبدًا"، و"إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا".. ونتحسر على أن "بلاد العُرب" تراجعت أشواطًا عن القواعد البسيطة هذه، والتي صارت بفعل بؤسنا نماذج للحكم الرشيد وحرية التعبير.
كلما أردنا أن نبحث في أسباب مأساتنا المديدة، وكلما عزمنا على الكشف عن موطن الخلل، تبرز "أسماء الماضي البائس"، فنحملهم تبعات مأزقنا التاريخي، ونلومهم على أنهم شقوا لنا دروبًا قسرية أوصلتنا إلى ما نحن فيه
وكذلك، وبالمقابل، كلما أردنا أن نبحث في أسباب مأساتنا المديدة، وكلما عزمنا على الكشف عن موطن الخلل، تبرز "أسماء الماضي البائس"، (بينهم وعلى رأسهم معاوية)، فنحملهم تبعات مأزقنا التاريخي، ونلومهم على أنهم شقوا لنا دروبًا قسرية أوصلتنا إلى ما نحن فيه. ونخص معاوية بالحصة الأوفر من اللوم، ذلك أنه "أول من حاد عن مثال رسالة واعدة، كان يمكنها أن تتابع سيرة مختلفة وتفضي إلى نتائج مغايرة، فهو من أرسى حكم الملك العضوض ومن حول السلطة إلى منافع شخصية وعائلية وأحاطها بأبهة لا تزال سنة تُتبع إلى يومنا هذا"..
وبين هذا وذاك، بين المناصرين المدلهين والغاضبين الساخطين، بين الحنين والتقريع، يغيب معاوية ابن أبي سفيان نفسه، ابن مكة القرن السابع الميلادي (ولد سنة 608 وتوفي سنة 680)، الذي نشأ وكبر وعارك وقاتل وساس وفكر.. في سياق لم يعد هو سياقنا الراهن، في زمن لم يعد زمننا، وعصر لم تعد تربطنا به إلا أوهى الصلات الفعلية والحقيقية.. وبالتالي فطريقنا إلى معاوية يجب ألا يخرج عن مناهج التأريخ المعروفة، والتي تتيح لنا معرفته (إذا كنا نريد ذلك حقًا) في سياقه التاريخي وبيئته الجغرافية وظروف زمانه..
أما ما نفعله اليوم فيوحي بأن الرجل لا يزال يحيا بيننا، يقرر في شؤوننا ويحكم فينا، ويغلب خيارًا على خيار، ويناصر هذا ضد ذاك، ويحمل لواء فريق ضد فريق من فرقنا المتنازعة الآن..
وهذا هو سلوكنا المعتاد إزاء التاريخ، فبدلًا من زيارة أجدادنا في أزمنتهم، لنستنطقهم في شؤونهم ووقائع حياتهم ونفهمهم كما كانوا وكما عاشوا، علنا نخرج باستشارة ما تنفعنا في حاضرنا.. فإننا نحضرهم إلينا كلما طاب لنا، بل أننا نحتفظ بهم هنا والآن، ونحكّمهم بيننا، وبالطبع بعد أن نملي نخن عليهم ما يجب أن يقولوه..
ولأنه من المستحيل استعادة بشر ماتوا قبل ألف عام، بشر من لحم ودم وهموم وهواجس، مع ما ينطوون عليه من تركيب وتعقيد يلازمان كل البشر.. لأن ذلك مستحيل، فنحن نأتي بأجدادنا مجردين من بشريتهم محولين إياهم إلى رموز ويافطات نخوض باسمها معارك اليوم، مصرين على أننا نتحدث في التاريخ!
يقال: إننا مصابون بلعنة التاريخ، والأصح إننا مصابون بلعنة الحاضر التي تحرمنا من أخذ مسافة كافية وطبيعية عن التاريخ.
ويقال: إنه يصعب علينا الخروج من التاريخ. والأكثر دقة هو أنه يصعب علينا ترك أجدادنا يخرجون من حياتنا.. ليعاودوا موتهم المريح.