سبع سنوات وثلاثة أشهر وستة أيام، مرّت منذ المرة الأخيرة التي اشتم فيها شعري رطوبة غزة!! أذكر تمامًا لحظة حصولنا على الختم المصري كيف ركضنا، وكأنّ كلابًا جائعة تركض خلفنا. كان ذلك في مساء آخر أيام آب 2008، وأول فجر في رمضان ذلك العام! أذكر تمامًا بداية هذه الرحلة في آذار من العام نفسه! قد يبدو غريبًا لمن هم خارج غزة أن رحلة الخروج منها قد تحتاج كل هذا الوقت، مع أننا كنا نقطع القطاع من الشمال إلى الجنوب في نصف ساعة!!
المعبر هو جزء من حالة العجز، وسياسة العقاب الجماعي، والصراع على السيادة، هو كذلك منذ بدأ وعيي بالأشياء. أذكرني أنام في رفح على الأرض في الصالة مع أمي بانتظار فتح المعبر لزيارة أهلها في دمشق. أذكرني عالقة على الجانب المصري لأربعة أيام مع أصدقائي، في أول مرة يأذن فيها أهلي لي بالسفر وحدي لأجل المشاركة في مؤتمر في جنوب أفريقيا. أذكرني عالقة في اللامكان لمدة ثلاثة أشهر بعد عمليات تفجير في المعبر في 2001 - 2002.
ما زلت أذكر تفاصيل أيام المعبر بمعاناتها، وضحكاتها. السيدات العجائز مهربات الدخان والعصافير، الفتيان والفتيات عرضة لشراك الإعجاب، بينما الأهل يتجرعون رائحة العرق والرطوبة في بلاط هذا المعبر اليائس! أذكر الحمامات التي بناها الهلال الأحمر المصري بعد موت العشرات بانتظار فتح المعبر في كانون الأول/ديسمبر 2001. أذكر كل هذا وأعي تمامًا أن هذه كانت جزءًا من المشهد العام تحت الاحتلال مثلها مثل الحواجز والمستوطنات.
بعد 2006، عندما اغتسلت شوارع غزة بالدماء الفلسطينية بأيدٍ فلسطينية، أذكر تمامًا داء الانفصام الذي أصاب هذه المدينة التعسة!! وبما أن المعبر هو ابن هذه المدينة فقد أُصيب بالانفصام أيضًا!! المقاومون والتجار والسماسرة استنسخوا أجنةً مشوهة في رحم رفح الأرملة. أصبحت الأنفاق وسيلة مقاومة! لأن الصمود في وجه الحصار مقاومة.
كنت أنام وأصحو على أخبار المعبر، أتواطأ مع السماسرة الذين هم سبب هواجسي بعبور المعبر! أذكر أنني دخلت في صفقة صفراء مع أحد مهربي الأنفاق وجررت أختي الصغيرة معي دون أي إحساس بالشفقة تجاه والديّ عند خسارتهما لاثنتين من العائلة في ضربة واحدة!!
الهروب هو الحل الوحيد ولا إجابة لدي عندما كان يسألني أبي عن خطتي؟ كان جوابي دائمًا واحدًا: "بس أطلع من المعبر كل شي بينحل"! أذكره وأشفق عليه اليوم بعد مرور سبع سنوات. أذكرني قاسية، أنتهز أي فرصة لأشعره بالعجز تجاهنا نحن بناته اللواتي تربين على حرية لم تعد هذه المدينة الحزينة تستطيع احتمالها!!
أجرُّ أختي أمامي لنقف في طابور عند أحد الأنفاق للطبقة المتوسطة في محاولة للهروب، بينما أهلي مع أخويَّ الصغيرين وأصدقاء العائلة يحاولون الانفصال عن واقع المدينة التعس مؤمنين بأننا في أحد الأنشطة، لا في أحد طوابير الموت! كل ما احتجناه هو خمسة آلاف دولار، وجلباب وحجاب والتزام الطابور، حتى شعرنا بهزة أرضية تحت أقدامنا ودوي انفجار! المصريون فجروا أنابيب غاز في النفق.
استيقظت على رنين الهاتف. يأتيني صوت متعب يسألني عن عائلتي، أجيب أنهم بخير. ألم تسمعي الأخبار بعد؟؟ وقبل أن أجيب ينهي المكالمة. أقفز من سريري وأركض إلى الأخبار. غزة تشتعل.
كانون الأول/ديسمبر 2008، ما إن وصلت إلى النرويج وشعرت أن هناك ولادةً جديدة تنتظرني، من رحم الثلج هذه المرة، كنت قد بدأت أنسج حلمًا جديدًا عن الكرمل الثلجي الذي يقف بين الجبال البيضاء والطرق الداكنة، فالليل هو لوني الجديد، أو هكذا كنت أظن إلى أن بدأت أشم رائحة الرماد في صوت أمي عبر الهاتف. أذكر تلك الليلة عندما خرجت من المبنى البائس الذي أسكن فيه على قمة جبلٍ بعيد عن المدينة، يلتفح المحيط عقدًا لينتهي ببحيرة صغيرة تحولت إلى مرآة جليدية.
أجلس على الحافة وأنظر إلى وجهي لماذا لا أستطيع البكاء؟ لماذا تركت أمي وحيدة هناك؟ لماذا أشعر بالخوف وقد كنت على يقين تام بأنني لن آبه بما سيحدث بعد خروجي من تلك البائسة غزة؟ لماذا وعدت نفسي أنني لن أمرض بالحنين وها أنا هنا أجلس على مسافة ثلاثة أشهر فقط من ذلك الوعد؟
أحاول استحضار رائحة الشوكولا التي كانت أمي تحضرها وتغني لفيروز عندما يبدأ القصف، كي تشعل رائحة الحب في أجسادنا، وأذكرها تمزح بصوت عال "إن متنا سنموت وفي ذاكرتنا رائحة دافئة تلف أرواحنا وإن عشنا سنذكر شوكولا طهيت على نور الصواريخ".
لماذا أحن إلى إخوتي حين نقف معًا عند النافذة لنعد الصواريخ الممطرة ونرسم خارطة للمدينة ونلصق ورودًا ورقية على الأماكن التي من الممكن إصابتها. لماذا أذكر فرحتنا عند الساعات القليلة التي تأتي فيها الكهرباء؟ لماذا أذكر تلك الخلية العسكرية الصغيرة تستمتع بوصايا أمي في تخزين الماء وشحن البطاريات الخارجية وغسل الملابس والصحون ونتخيل أنه العيد أتى بعد غيبة ويجب اسقباله بما يليق به. لماذا أذكر الكذبات الصغيرة التي كنت ألفقها للخروج من بيتنا لألتقي بأصدقائي، نرسم مدينتنا الخيالية ونعزف ونغني بصوت عالٍ لا نأبه بالنشاز في اللحن فهو جزء من تركيبتنا؟
ثلاثة وعشرون يومًا مرّت لا أعلم شيئًا عن أهلي، أهرب فيها من عيون أختي الصغيرة التي ركبت موجة جنون الهروب معي، وها نحن نجلس وحيدتين ننتظر سماع صوت وهم بعيد ليخبرنا بشيء، أي شيء عن صدر أمنا البعيد. ثلاثة وعشرون يومًا أركض إلى البحيرة أرتدي ملابس رديئة لا تصلح حتى لصيف هذه الجبال!! العجز كان كرة نارية تذيب مغناطيس الصقيع الذي حل بنا هنا.
انتهت الحرب.. أطلب من أمي رؤية وجوههم وألعن التكنولوجيا من بعدها. أختي الصغيرة بهالاتها السوداء تقول لي: "نحن بخير بس ما كان في شوكولا ولا فيروز المرة هاي، بس مش مهم أنا خبيت دفتر الرسم لصاحبتي آخر يوم بالمدرسة، وعم بستنى ترد على مكالماتي لأخبرها أنو رسماتها بخير".
انتهت المكالمة وكنت ما زلت أبحث عن وجوههم التي أعرفها، أحسست وكأن الثلج المحيط بي كان وصل قلوبهم، وأن ثلاثة وعشرين يومًا كانت كافية ليصنعوا عائلة جديدة لا أعرف عنها شيئًا.
"أريد أن أعود إلى غزة لأراكم ثم أعود". يأتي صوت أبي من بعيد: "المعبر مسكر ووضع فتحه أصعب مما كان عليه عندما كنت هنا، لا شيء لكِ هنا كرمل! لن تعرفي العودة إلى بيتنا وحدك. بعد هذه الحرب غزة لبست وجهًا آخر!".
صوت طنين.. لقد أنهى المكالمة.
اقرأ/ي أيضًا: