عرض الفنان والناقد اللبناني محمد شرف مؤخرًا 30 لوحة في غاليري أكزود ببيروت. الذين تابعوا المعرض وكتبوا عنه أشاروا أكثر من مرة إلى أن أحجام اللوحات صغيرة في غالبها الأعم، وبعضها أتى بمقاسات متوسطة. وبعض هذه اللوحات يعود تاريخ رسمه إلى 30 سنة، وكلها رسمت بألوان مائية. أما مشاهدها فتنوعت بين الفضاء الطلق الخريفي، وبعض الطبيعة الصامتة التي تسكن الغرف.
تريد لوحات محمد شرف الصغيرة أن تقول لنا إن امتلاك لوحة من هذه اللوحات يشبه في حقيقته امتلاك جزء من ذاكرة الفنان وأعصابه
الحديث عن مهارة شرف ليس موضوع نقاش. ما يثير في هذا المعرض، ليس قدرة الفنان أن يشعر الناظر إلى لوحاته ببللها نتيجة المطر والضباب. وهذا يتبدى في معظم اللوحات. وليس فكرة "نوستالجيا الخريف" التي أرادها الفنان عنوانا لمعرضه هذا، مع أن هذه النوستالجيا تحك جرحًا مندملًا في نفسي. ذلك أن ما يعرضه الفنان يكاد يغطي كل خريف مر عليه في حياته التي أمضى جزءًا أساسيًا منها في لبنان، البلد الذي لا يحفظ للنوستالجيا مقامًا، ويدمن على مر تاريخه على العيش في الحاضر الأبدي، كما لو أنه لم يكن يومًا، وكما لو أنه لن يكون يومًا أيضًا. محمد شرف يؤكد في معرضه هذا أن فصولًا كثيرة مرت على البلد، وهو شاهد على مرورها. وما زال ثمة ما يمكننا استعادته من هذه الفصول.
حسنًا، كل هذا يتعلق بشجون مشتركة بيني وبينه. إنما ما الذي يقوله وحده ويصلني صداه؟
أحسب أن هذه اللوحات الصغيرة الأحجام تفصح عن رغبتها في تجنب ادعاء السوق الفنية. هذه ليست جداريات ضخمة ومدعية، ولا تريد أن تقيم احتفالات عامة، أو تحتل حيزًا كبيرًا من فضاء الناس العام. هذه لوحات شخصية. لوحات مزاج يحاول أن يظهر للمشاهد واقع أن العيش الذي يختبره الإنسان ليس كله ملموسًا ومملوكًا. بعضه يقبع في اللمحة التي نسرقها ونحن نعبر في حافلة. بعضه ليس قابلًا لأن تطأه أقدامنا، وبعضه الآخر ليس قابلًا لأن نتأمل فيه طويلًا. حتى وقت إنجاز اللوحة سيكون ثقيلًا على الراسم إن حاول قضاءه أمام المشهد وهو يرسمه.
هكذا تريد لوحات محمد شرف الصغيرة أن تقول لنا إن امتلاك لوحة من هذه اللوحات يشبه في حقيقته امتلاك جزء من ذاكرة الفنان وأعصابه. كما لو أن الفنان يفتح أمام زوار معرضه أدراج ذاكرته البصرية، ويطلب منهم امتلاكها قبل أن تختفي.
محمد شرف يرسم ما عبر في حياته وترك أثرًا. ولم يكن ممكنًا لنا أن نتصور عمقه لولا أنه عرض علينا لوحات ما عبر من هذه الحياة. وحيث إن المشاهد المرسومة تبدو للناظر حقيقية من وجه أول ومتخيلة من وجه ثان، فإن المشهد المرسوم لا يُصور كما هو في حقيقته. بل تضاف إليه العوامل الطبيعية والإنسانية المرافقة لتؤثر عليه، فيتحول ناطقًا. ومعنى نطق المشهد أن الشجرة في لوحته ليست شجرة، بل هي شجرة أضيفت إليها رياح سابقة، وأمطار آتية. وهي بهذا المعنى تنبئ الناظر إليها أنها تستعد للهرب أو الاحتماء، أكثر مما تستطيع الصمود في الريح والمطر.
محمد شرف يرسم أشجار ذاكرته، وجبالها وبحارها. إلى حد أنك لن تعرف إذا كان هذا الماء الطافح في اللوحة جزءًا من بحر أو مجرد مطر عابر.