كان ينتظرني في المحطة، أمام أبواب الحافلات والقطارات، التي ينزل منها غرباءُ برلين. رقبته ملفوفةُ بشالٍ شتويّ يتناسب مع انتظار طويل نوعًا ما. وجهه أحمر، وصحته جيدة، كأنه ألمانيّ. لم يكن يبدو عليه أنّه قد فكّر أو تذمّر.
غادر حسين الموزاني حاملًا صور بغداد السبعينيات، وهي أجمل صورها في العصر الحديث
"أهلًا أبو علي" هكذا حيّاني الراحل حسين الموزاني، وبعدها نظر إليّ كأنه ينظر إلى مدينة عراقية يُحبّها أو ما شابه ذلك. تناولنا الغداء في مطعم فارسيّ يقدم الأكلة التي تسمّى شعبيًا في العراق "قيمة"، وهي لحمٌ مهروس مع حُمُّص، عادةً ما يطبخها الشيعة العراقيون في شهر محرّم. ربما أراد أن يتناول لحظة عراقيّةً على هيئة وجبةٍ مع عراقي، لينفض شعور المنفى ولو لوهلة عن كاهليه!
اقرأ/ي أيضًا: رحيل دينِس جونسون ديفِز.. من يترجم العرب بعد اليوم؟
يعيش وحيدًا في شقة جميلة، قرب حي شارل لوتمبورغ. مكتبته الضخمة والمتنوعة تضم كتبًا عربية إلى جوار أخرى ألمانية وإنجليزية، شكا إليّ قلة الوقت اللازم لترجمتها إلى العربية. هناك أيضًا مسودات جديدة لقصص وترجمات عن الألمانية. مطبخٌ مليء بزجاجات نبيذ قديمة، براد يفيض بالمعلبات وأكياس الجبن والزيتون. ولوصف البيت بدقة أكثر، أستعير صورة محمود درويش من قصيدة "ليس للكردي إلا الريح"، لأقول: "منزله نظيفٌ مثل عين الديك".
كان الألم، بالتأكيد، جليسنا الثالث عندما تحدثّنا عن العراق، ذلك البلد الذي غادره حسين الموزاني عام 1978 إلى بيروت، ومن ثم القاهرة، وأخيرًا إلى برلين. منذ ذلك العام، لم يقرر حسين الموزاني العودة إلى بغداد إلا بعد التغيير الهائل بسقوط الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وكان ذلك في العام 2004. ولكن ما الذي وجده هذا المنفيّ الطيب؟ وجد بلدًا خِربًا تمامًا، واقتتال عنيف بين العراقيين والأمريكيين، وبين العراقيين بعضهم البعض. وجد عِراقًا بائسًا يحتل عراقه الجميل، ويختلف جذريًا عن ذاك الذي غادره في سبعينيات القرن الماضي، حين ترك عراقًا ذا مكانة هامة على مستوى المنطقة، إذ كانت فيه حياة وحيوية وأمان وحقوق ودولة، إذ لم تتوالَ حروب الجنون بعد.
صحيح أن نشاط حسين الموزاني السياسي آنذاك دفعه إلى المغادرة، لكن شتان بين جيلنا وبينه، فنحن غادرنا هاربين من المفخّخات والقتل الجماعي والطائفية وكوابيس الحرب.
لم يكن حسين الموزاني يعرف هذه الأشياء أو عاش معها، ما جعلني أشعر أنّ لكلّ منا عراقًا مختلفًا عن الآخر، ولهذا لم نفسه من هول المرارة والصدمة إلا أن عائدًا أدراجه إلى برلين مرةً أخرى، خائبًا ووحيدًا ومعزولًا، لم يبق في روحه أي أمل، تيبّس في داخله غصن العودة إلى الوطن، وأضحى مثل كافكا يصارع رغبة أن يضع لحياته حدًّا.
كانت صور بغداد السبعينية، وهي أجمل نسخة لبغداد في القرن العشرين، لا تزال تستحوذ على ذاكرة حسين الموزاني، التي حاولت أن تبقيها كما عرفتها بمقاهيها وحافلاتها الحمراء، ونوادي السينما والحانات، وشارع الرشيد، ومطاعم الأحياء الشعبية الآمنة، والمكتبات، وذلك النوع الضروري من التسامح والاحترام.
أما أنا، فقد جئت من عِراقٍ مختلف عن عِراق الموزاني، إنه عراقيّ الديمقراطي الحديث، عِراق الانتحاريين والهجمات الجوية، التي توهمنا الجدّة بأنها ألعاب نارية! عِراق الصحراء، حيث تم تدمير كل شيء تمامًا تدميرًا هائلًا وممنهجًا، وربما إلى الأبد. إلى درجة "لا يوجد في العراق مدن، وإنما خرابٌ وإطلال"، كما يقول سعدي يوسف.
يسألني الراحل حسين الموزاني:
- أين تدرس؟
- في جامعة بغداد.
- أين تقع كليتك بالضبط؟ في الباب المعظّم؟
- لا، في الوزيرية!
- تذكرت، الحافلة رقم (...) تذهب إلى هناك.
لم أجد، أنا العِراقي سليل زمن المفخخات والفوضى، أن أقول لحسين الموزاني ابن بعض أفضل اللحظات العراقية، إلا أنه لم تعد هناك حافلة، ولم نعد نستخدم أنظمة في النقل كما في السابق، ولا أعرف المطعم الذي تحدث عنه في شارع الرشيد، ولم أعرف السينما التي كان يذهب إليها، لقد تغيّر كل شيء، عمليًّا هو يتحدث عن عراق لا أعرفه، عراق من كوكب آخر، لعله كوكب الأحلام.
كيف يلتقي عراقيان، واحد من زمن المفخخات والرعب والكوابيس وآخر من زمن العراق الجميل؟
حين حدّثته عن أحياء وأماكن وأمور لم يعرفها أيضًا، حتى لو كان تسقّط أخبارها في المنفى، إلا أنها كانت عصية على الفهم. هو في واد، وأنا في واد آخر، واللغة التي بيننا أشبه بفجوة تبتلع الأفكار ولا تقود إلى معنى، صحيح أنها اللغة ذاتها، لكنّ الصحيح أيضًا ليست من البلد نفسه.
اقرأ/ي أيضًا: حنة آرندت.. فيلسوفة تفكيك الشمولية
ازداد كآبةً وتغير لون وجهه تدريجيًا من الغم والهم والأسى، نعم، فنحن من عِراقين، أو ربما من أكثر من عراق، والفرق بين كلّ منهما هو الفرق بين الحلم والكابوس.
أنا سليل زمن المفخخات والذبح والأشلاء والفوضى، لا أحتفظ بأية ذكرى سوى الرعب، وهو ابن بعض أجمل اللحظات التي نمت في عقله مثل شجرة أبدية.
آخر أمانيه كانت رؤية مدينة الموصل التي لم يزرها في حياته، إذ كتب على صفحته الإلكترونية بعد تحريرها من داعش "أحلم بزيارة مدينة الموصل التي لم أرها في حياتي، وربما لن أراها أبدًا". وفعلًا، لن يراها إلى الأبد، فقد مات في برلين بعد كتابة المنشور بعدة أيام.
برحيل حسين الموزاني خسرت الثقافة العراقية والعربية أديبًا موهوبًا، وصاحب تجربة عميقة في المنفى والأدب والحياة، ومترجمًا قديرًا متمكنًا من اللغة الألمانية التي درسها لخمس سنوات وكتب بعض رواياته فيها، رحيله كان أقسى رحيل، فقد عاش حياته كلها يبحث عن وطن ضائع، وأمل بعيد، يعيد له ولو ذكرى واحدة من ذكريات الصبا والشباب.
اقرأ/ي أيضًا: