في أواسط التسعينات أطلقت مطبعة جامعة أكسفورد سلسلة كتب تحت عنوان "مقدمات قصيرة جدًا"، تقوم على فكرة أساسية مفادها تقديم شروح مكثفة ومركزة وموجزة لموضوعات متنوعة موزعة على مختلف التخصصات: فلسفة، سياسة، تاريخ، اقتصاد، علوم.. ويقوم بكتابتها خبراء متخصصون، بلغة بسيطة وسلسة دون الوقوع في فخ الاختزال المشوه أو التبسيط المخل، مستهدفين المهتمين من القراء العاديين.
هدمت الحرب العالمية الثانية عالم القرن التاسع عشر، وخلقت عالمًا جديدًا مختلفًا بقواعد وشروط وملامح لا تمت إلا بصلة ضئيلة لما كان سائدًا وراسخًا
وقد وصل عدد الكتب المنشورة في السلسلة إلى نحو 500، مع تحقيق نجاح تجاري ملحوظ، فحتى العام 2011 كانت مطبعة الجامعة العالمية المرموقة قد باعت أكثر من خمسة ملايين نسخة حول العالم، ونشرت كتب السلسلة بأكثر من 25 لغة.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "مسألة العربي".. رواية مختلفة عن التهجين الثقافي
وقامت مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بتوفير هذه الكتب باللغة العربية بصيغة "بي دي إف" على موقع المؤسسة على الإنترنت.
من بين العناوين البارزة للسلسلة: "الإنسانوية"، "علم الأحياء النمائي"، "الدادائية والسريالية"، "التطور"، "توكفيل"، "عصر النهضة"، "النظرية النقدية"، "تاريخ الطب"، "البوذية"، "الفلسفة الهندية"، "علم الإحصاء"، "رولان بارت"، "الخيال العلمي"، "الجزيئات"، "علم التشفير"، "ما بعد الحداثة"، "تاريخ الرياضيات"..
وثمة واحدة من "المقدمات" يجدر التوقف عندها الآن ونحن نشهد حربًا في أوكرانيا تنذر بتغيير كبير في أوضاع العالم، ذلك أن كتاب "الحرب الباردة ـ مقدمة قصيرة جدًا" للمؤرخ الأمريكي روبرت ماكمان، (مؤسسة هنداوي، ترجمة محمد فتحي خضر)، يُذكّر بكثير من المعطيات والوقائع التي يمكن عدها جذورًا للأزمة الراهنة، كما يستعرض أحداثًا مفصلية جسيمة هي سوابق تاريخية للتفصيل الأكثر خطورة في الحرب الدائرة اليوم والذي تسبب لنا بصدمة كبيرة: التلويح بالأسلحة النووية.
بداية الكتاب كانت من الحرب العالمية الثانية، والتي هدمت العالم القديم، عالم القرن التاسع عشر، وخلقت عالمًا جديدًا مختلفًا بقواعد وشروط وملامح لا تمت إلا بصلة ضئيلة لما كان سائدًا وراسخًا. ويستشهد المؤلف بالمؤرخ توماس جي باترسون الذي قال: "إن الدمار الرهيب الذي شهده العالم بين عامي 1939 و 1945 كان شاملًا وعميقًا لدرجة انقلب معها العالم رأسًا على عقب. ليس فقط عالم البشر بعماله ومزارعيه وتجاره وموسريه ومفكريه.. ليس فقط ذلك العالم الآمن بعائلاته ومجتمعاته المتماسكة، ليس فقط ذلك العالم العسكري بقوات العاصفة التابعة للنازي وطياري الكاميكازي اليابانيين الانتحاريين، بل كل هذا معًا وأكثر".
إذا كانت العلاقات الدولية، أثناء الحرب الباردة، قد تحركت وفق قواعد واضحة وثابتة نسبيًا، فإن الوصول إلى ذلك لم يكن انسيابيًا وسلسًا
انتهت الحرب إلى مشهد غريب: الحليفان القويان اللذان هزما النازية معًا سرعان ما يقفان في مواجهة بعضهما البعض، وما أضفى تعقيدًا شديدًا هو أنهما لا ينتميان إلى القوى العالمية التقليدية، والصراع بينهما ليس صراع الإمبراطوريات المألوف، ذلك أن ما فرق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لم يكن خلاف مصالح ونفوذ ومستعمرات وحسب، بل ثمة مستجد تمثل بالخلاف الأيديولوجي. كانت موسكو راعية العقيدة الشيوعية فيما كانت واشنطن قلعة الرأسمالية، ومن هنا فقد كان الصدام حتميًا وغير تقليدي. والحرب الباردة كانت باردة لأن الأفكار والعقائد والمعلومات والصور والرموز حلت محل المدافع والطائرات والصواريخ، بالإضافة طبعًا إلى الحروب الفعلية عبر وكلاء في أصقاع مختلفة من العالم.
اقرأ/ي أيضًا: فرويد وأينشتاين.. مراسلات حول الحرب
ولقد سارت الحرب الباردة على مسارين مختلفين متوازيين، ففي أوربا شهدت الأوضاع استقرارًا راسخًا وطويلًا، إذ سرعان ما رُسمت خطوط التقسيم: أوربا الشرقية لموسكو، وأوربا الغربية لواشنطن.. الأولى شيوعية والثانية رأسمالية. وفي ظل هذا الاستقرار، وياللمفارقة: في ظل الحرب الباردة، شهدت أوربا الغربية سنواتها الطويلة المجيدة، حيث ازدهر الاقتصاد محققًا مؤشرات وأرقام نمو فريد، تضاءلت البطالة وقفز الدخل الفردي إلى معدلات تاريخية، وتقلص حجم الفارق الطبقي، وانتعشت أحوال العمال وصغار المنتجين.
أما في العالم الثالث (وبالمناسبة ولد هذا المصطلح في بدايات الحرب الباردة) فقد كانت الصورة مغايرة، إذ ترافقت الحرب الباردة مع ظاهرة التخلص من الاستعمار، وقد تقاطعت الظاهرتان وتشابكت مساراتهما، ما أدى إلى نتيجتين متناقضتين، فمن جهة سهل هذا التشابك استقلال بعض الدول المحتلة، ومن جهة ثانية عقّد محاولات استقلال دول أخرى وجعل كلفتها باهظة.
وإذا كانت العلاقات الدولية، أثناء الحرب الباردة، قد تحركت وفق قواعد واضحة وثابتة نسبيًا، فإن الوصول إلى ذلك لم يكن انسيابيًا وسلسًا، فلقد مر العالم بأوقات عصيبة حبس فيها أنفاسه ووقف على أصابع قدميه، واحتاج الأمر إلى مراهنات ومجازفات خطرة ليصل القطبان إلى اتقان تام للعبة. في العام 1958 نشب نزاع أمريكي صيني حول تايوان احتاجت فيه واشنطن إلى التلويح بالقوة القصوى، وفي العام التالي نشب نزاع آخر، أمريكي روسي هذه المرة، حول مدينة برلين الألمانية، وهنا أيضًا تم التلويح بالنووي. ولكن الأخطر هو ما حدث في العام 1962، إذ اكتشفت طائرة استطلاع أمريكية، في الرابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر، وجود صواريخ روسية نووية متوسطة المدى في كوبا موجهة إلى الأراضي الأمريكية، ما جعل العالم يعيش كابوسًا مرعبًا لمدة أسبوعين طويلين عصيبين.
لم يقتصر تأثير الحرب الباردة على العلاقات الدولية فقط بل امتد إلى الشؤون الداخلية لمعظم الدول، ولقد نشأت أجيال على معايير وقيم محددة، وكانت الأيديولوجيا بمثابة خبز يومي لكثير من البشر، وفي أعين كثيرة كانت الأرض مقسمة بين لونين اثنين: أبيض وأسود.
نعلم كيف انتهت تلك الحرب في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، عندما كتب فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ. واليوم ثمة مؤشرات على نهاية لهذه النهاية، وعلى حد تعبير روبرت غيتس، وزير الدفاع الأمريكيّ السابق، الذي قال: "بعد الهجوم الروسيّ على أوكرانيا فإنّ الإجازة من التاريخ انتهت".
اقرأ/ي أيضًا:
من زوايا الخوارزمي إلى مزار جيفارا.. هل للصور والأرقام ثقافات تتجاوز أشكالها؟