تقول مكادي نحاس "مشكلتنا في العالم العربي أن الثقافة ليست من أولوياتنا" وإنها لو كانت أولوياتنا حقًا "لما أصبح لدينا إرهابيون". الفنانة التي ارتبطت بالهمّ العام حيث نشأت في بيت سياسي مهموم بقضية فلسطين ومختلف القضايا العربية. رفضت الغناء التجاري، وارتبطت بمشروع الأغنية المستقلة. بالنسبة لها "الفن يفتح أمام الفرد نوافذ لرؤية العالم".
مكادي نحاس: أعتبر نفسي فنانة عربية وهذا العالم العربي كله لنا
ما الجديد؟
- دائمًا هناك جديد، وعمل لإنجاز الألبوم السادس. ثمة بحث مستمر عن نصوص وعن أفكار جديدة. وهذا لا يتوقف. سيكون هنالك تعاون موسيقي مع أكثر من ملحن عربي. كثير من الأفكار عُملت واستهلكت، مما يستدعي جهدًا أكبر للبحث عن أفكار جديدة.
ماذا عن مشروع.. كألبومك الأخير "نور"؟
أجل، منذ انتهينا من "نور" ونحن نفتش عن شيء جديد. وعملية البحث، هي دائمًا هكذا، تبدأ بشيء وتنتهي بشيء آخر. نفكر أحيانًا بعمل أغنيات مستلهمة من التراث مجددًا، ولكن بتقديم أعمال مختلفة. إذًا هذا الموضوع مستمر دائمًا.
تعتبرين في جيلك من الأوائل الذين استعادوا الأغنيات التراثية في العراق أو في بلاد الشام، كيف تنظرين لهذه التجربة وما تركت من أصداء؟
- بلا شك، تجربة أفخر بها، والجمهور يطالبني دومًا بإعادتها. خصوصًا الألبوم العراقي "كان يا مكان" (1997). كان صداه كبيرًا. كنت خائفة بعض الشيء، كونه أول ألبوم. كنت سجلت هذا الألبوم في العراق أيام الحصار بإمكانيات جدًا بسيطة، وهذا سبب لي قلقًا في مكان ما، فلم تكن هناك تقنيات عالية في الاستوديو.. إلخ. لكنها تجربة ظهرت بأروع ما يكون. الموسيقيون أعطوني أقصى ما لديهم. الموزع أستاذ محمد أمين عزت، وكل من عمل في الألبوم، أعطى كل ما يملك في ذلك الوقت والظرف. وعندما صدر الألبوم، طبعت فقط مائة نسخة وزعتها على الأصدقاء والأقارب. شيئًا فشيئًا بدأ ينتشر ووضع على أحد مواقع الإنترنت وسجل نسب استماع عالية. الناس كانوا يظنونني عراقية لستُ أردنية. الاسم والهوية غريبة؛ مكادي نحاس وأظهر بألبوم عراقي. كل هذا خلق لبسًا لدى الناس.
حيرتي الجمهور؟
بالضبط. أعتبر نفسي فنانة عربية ولست لفئة أو بلد. أكيد أنا من الأردن أصلًا لكني أيضًا أعتبر نفسي فنانة عربية وهذا العالم العربي كله لنا.
ثم جاء ألبوم "خلخال"؟
بعد خمس سنوات من " كان يا مكان".
وهو فلكلور "من بلاد الشام"؟
صحيح.
إلى أي مدى يؤثر تعوّد الجمهور على أن يغني المطرب أغنيات ليست له، ثم يأتي ليقدم أغانيه الخاصة؟
الاختلاف لم يكن كبيرًا، الأغنيات التي غنيتها من التراث. ومعظمها لم يكن مطروقًا، وبالتالي هي جديدة لأذن المستمع العربي. خصوصًا أغنيات التراث العراقي. حتى أغنيات "خلخال" لم تكن جدًا مطروقة أو مستهلكة. مثل أغنية "فوق النخل" أو الأغاني السورية من حلب والتي يسمعها كل الناس. كنت دائمًا أبحث عن أغنيات قليلًا ما يسمعها الناس. وأعتقد أن هذا صنع تميزًا في مكان ما. حسنًا، أغني التراث ولكن بشكل غير مطروق، وبالتالي هي بمثابة أغنية جديدة. عندما يستمع شخص لأغنية "عمي يا بو الفانوس" أو "ليلة".. دائمًا كانوا يبحثون عن الأصول يجدونها في أكثر من شكل بمعنى، شكل موسيقي أو فرق في ذلك. أو المغني الأصلي، الذي للأسف لم يعد موجودًا حاليًا. بالنسبة لي لم يختلف شيء، ما زلت أرى أن التراث موجود ومتاح لكل الناس. في ألبوم "نور" أصبح الموضوع امتدادًا لتجربتي. هو تراكم واستمرار. لم أختلف كثيرًا في "نور". أجل الأغنيات جديدة، وفي معظمها من كلمات وألحان عملتنا، لكني أعتبره تراكمًا ونضوجًا وليس اختلافًا.
مكادي نحاس: كنت دائمًا أبحث عن أغنيات قليلًا ما يسمعها الناس. وأعتقد أن هذا صنع تميزًا في مكان ما
ما الدافع لتقديم تجارب من التراث؟
السبب الرئيس الذي دفعني لعمل ألبوم "كان يامكان"، لأني كنت أقدم هذه الأغنيات، بشكل "أكبيلا" أي غناء منفرد دون مصاحبة الموسيقى، على المسارح في بيروت أول فترة دراستي. فالناس بدأت تسألني. هل هذه الأغاني لكِ، وهل هي موجودة أو غير موجودة. هي لم تكن مسجلة وتسجيلاتها كانت جدًا قديمة في ذلك الوقت. شعرت أن الناس تحبها مني، فلماذا لا أقدمها في ألبوم. وشعرتُ أيضا بمسؤولية تجاه المغني الأصلي والتراث. أن هذه الأغنيات بدأت تنتشر، لماذا لا أوثقها في ألبوم حول التراث العراقي في ذلك الوقت وهذا ما حدث. لم أغنِ مثلًا " فوق النخل" ولا "قلي يا حلو"، بل غنيت الأغاني التي أصبحت في ما بعد مطروقة في التراث العراقي. مثلًا، أغنية "صغيرة جِنت"، سترى بعد أن غنيتها غناها كثر، وهي طبعًا لسيتا هاكوبيان. و"خاله شكو" نفس الأمر. إذًا هنالك كثير من الأغنيات التي لفتُّ النظر إليها، للشباب الذين بدأوا الغناء بأن يغنوها. وهذا شيء جميل وهذا تراث موجود ومتاح.
التفاتة مكادي للأغاني العرقية، هل كانت بسبب القرب الجغرافي من العراق؟
أكيد. كان سببًا رئيسيًا، خصوصًا في الفترة التي بدأ العراقيون يأتون الأردن. وجاء موسيقيون أيضًا وحدث اختلاط معهم. وصرنا نقيم حفلات مشتركة. صار لدينا نوع من التبادل الثقافي. والأردن مستفيد جدًا من هذه الأمور. السوريون جاؤوا وسابقًا العراقيين والله أعلم من يأتي لاحقًا. أتمنى أن تهدأ الأمور ويعم الأمن والسلام. الاختلاط إذًا، ولّد لدينا قربًا، أكثر. إلهام مدفعي في وقتها كان أهم مغني في الأردن. كان هناك هَبّةٌ تجاه الثقافة العراقية، لأنهم كانوا موجودين في البلد. ولكن كنت أستمع لأغنيات العراقية والخليجية من قبل، من خلال الراديو أو من خلال أصدقاء والدي، حيث كنّا نحصل على أسطوانات أو كاسيتات لمغنيين من مصر أو غيرها. لكن أكثر ما أثر فيني هو الغناء العراقي.
شعرت أنه يشبهني ويشبه شخصيتي في مكان ما، وربما يشبه كاركتر صوتي، كنت أردد هذه الأغاني دون أن أعرف أني سوف أصبح مغنية. كنت أحفظ أغنيات كثيرة. كان أخي الأكبر مني، يأتي ويسألني عن معاني كلمات عراقية أو خليجية في الأغنيات وكنت أشرح له، ولم أكن أعرف من أين يأتيني هذا الفهم للأغنيات ولكنها ربما هي الفطرة. القرب الجغرافي إذًا وقرب اللهجة أيضًا. نحن في الأردن نفهم اللهجة العراقية والخليجية وكذلك اللهجة المصرية، لم يكن لدينا مشكلة في هذا الموضوع أيضًا. في المنزل كان هذا النوع من الأغنيات موجودًا ومتداولًا. كنا قليلًا ما نحضر التلفاز. لم يكن مسموحًا لنا، غير فقرة الأطفال. فلم نكن لنتأثر بما هو موجود على التلفزيونات.
بداياتك في بيروت كانت صعبة، لكنك أنتِ أيضًا من اختار الأصعب، لأنكِ اتجهتِ نحو طريق الأغنية المستقلة. لماذا لم تذهبي لشركات الإنتاج والقنوات مثلًا؟!
لا يناسبني هذا الشكل. لا يناسب بيئتي ولا تربيتي ولا أفكاري وكيف أريد أن أقدم شخصيتي. في أكثر من مناسبة. عُرض عليّ من شركات إنتاج وكان آخر ما يهمهم هو الصوت وبكل بساطة وشفافية، آخر ما يسأل عنه هذا المنتج هو الصوت (تضحك ساخرةً). حسنًا، شكلكِ، شعركِ، لطيف. حسنًا، اسمع صوتي يا أخي.. يجيب: لا، لا، لا داعي. كانت هناك أمور أخرى يعتمدون عليها لم تكن لتناسب شخصيتي بالتأكيد. كنت من أول الطريق، أعرف ما أريد فعله. ربما هذا ما دفعني إلى الصبر. جعلني أشعر أنني على الطريق الصحيح لأن ذلك الخيار ليس خياري. لا أريد أن أغني الغناء التجاري وأكون في الملاهي الليلية. كان الخيار بالنسبة لي واضحًا.
تشكل في العالم العربي تيار أغنية مستقلة، بدأ ينمو بشكل ملحوظ بعيدًا عن دعم الإنتاج التجاري، كيف تنظرين لهذه الموجة؟
جميلة ومفرحة ومهمة. كونها تجعل المشهد الثقافي المستقل يكبر وتجعل الناس تلتفت حولها. أخيرًا بدؤوا الالتفات حول الاتجاه، خصوصًا الفنان الذي لديه ما يقوله، لن يوصله سوى عمله. المنتج التجاري سيفرض عليه أشياء لن تناسبه بل ستأخره، يمكن أن يفشل ولا يستمر. إذا كان العائد ماديًا فحسنًا، سوف يجنيه. أما إذا كان العائد فكريًا وتجربة وخيارًا وجوديًا بالنسبة لهذا الفنان فعليه أن يختار الدخول في هذا التيار. أظن أنه صار هنالك وعي كبير لدى الشباب (المغنين) الذين يعملون بشكل مستقل، بألَّا يرضخوا لشروط المنتج التي غالبًا لا تشبه هذا الفنان. أحيانًا يفرض عليك المنتج مع من تغني وتسهر، خاصة إذا كان ذلك الفنان لديه فكر وثقافة بشكل عام. هذا الحضور للمغني المستقل مفرح، خصوصًا في العشر سنوات الأخيرة التي ظهرت وكبرت فيها "السوشيال ميديا" صار التواصل مع الفنان أسهل وأكبر وأعمال الفنان بدأت تنتشر بشكل أكبر.
مكادي نحاس: لو كانت الثقافة من أولوياتنا لما أصبح لدينا إرهابيون ولا صدرنا إرهابيين
ماذا عن فكرة الدعم الشعبي للفنان المستقل التي نجحت أخيرًا مع البعض؟
هذه الفكرة ولدت لدي عام 2005، وقتها كان لدي صفحة إلكترونية بها خمسون ألف شخص. وقلت: لو أن كل شخص دفع دولارًا، سيصبح لدينا خمسون ألف دولار. لأكتب هذا وسيصبح لدي ألبوم. لكن وقتها الأصدقاء الذين كانوا حولي قالوا عيب، وهذه "شحادة" وهكذا، فألغيت الفكرة ولم أعملها. والآن أهم المغنيين المستقلين يعملونها. الجميل أن هذا الوعي بدأ أيضا ينتشر لدى الناس بأن عليهم دعم هذا النوع من الثقافة لأن شركات الإنتاج لن تقوم بهذا الدعم.
المؤسسات الثقافية في العالم العربي يعوّل عليها في الدعم ولكن يبدو أنها أيضًا تتراجع وتتأثر بتقشف الميزانيات؟
ليس فقط ميزانيات بل هنالك تأثر بسياسات ثقافية معينة تتبعها. بالتأكيد الميزانيات تضررت، أن تكون جائزة العام خمسين ألف والعام التالي النصف ثم الربع. لأن مشكلتنا في العالم العربي أن الثقافة ليست من أولوياتنا. لو كانت الثقافة من أولوياتنا لما أصبح لدينا إرهابيون ولا صدرنا إرهابيين ولا سخافة للعالم على كل المستويات. لو كانت الثقافة أولوية لما كان لدينا مشكلات اجتماعية كبيرة ولا تحرش. الحل في العالم العربي هو أن يلتفتوا للثقافة والتعليم. هذا هو المخرج. ليس أن تحسنه اقتصاديًا وفقط، لأنك إذا حسنته اقتصاديًا سيستخدم المال بطريقة عشوائية في غياب الثقافة. الحل في الثقافة والتعليم.
الفن أمام الإرهاب ماذا يمكن أن يفعل؟
الكثير. هو المخرج لو أن هؤلاء المتشددين المتزمتين المنغلقين السوداويين الذي من الممكن أن يؤذوا أنفسهم والآخرين، لو أنهم تعرفوا على الفن لتغيروا. الفن يهذبهم وهنا لا أتكلم عن الفن السفيه والتجاري والذي يعتمد على الغرائز وهو آني، أتكلم عن الفن المربوط بالثقافة ولا ينفصل عنها. الفن يغير النفس ويفتح مداركه لآفاق أوسع. ليس الغناء فقط بل السينما المسرح، الرسم.. إلخ، وحتى الرياضة. لابد من توجيه طاقات الشباب لكي تفرغ بشكل جمالي على المجتمعات. بأن يكون إنسانًا متحضرًا، قليل العنف وكثير الأخلاق والإنتاج، وهو ما يلتزم به الفن، الذي هو مهذب هام للنفس. الأمر الآخر. الفن يفتح أمام الفرد نوافذ لرؤية العالم والآخر وليس الانغلاق المدمر على نفسه.
أن يرى الآخر بطريقة متحضرة، لا أن يرى الأوروبيات مجرد فتيات جميلات و.. أن يرى الجانب الجميل في أوروبا، المسرح والباليه والثقافة والأدب والتاريخ. الفنون يجب أن تكون مواد أسياسية في مدارسنا كي نقلل العنف، حتى المشاكل التي تحدث في الأردن (وهو شأنٌ داخلي) المشاكل التي تحدث في الجامعات، كذاك الذي يحل السلاح و"يكسّر الدنيا".. لماذا لأن التعليم تلقيني، مدجن، لا يفكرون "خارج الصندوق" وهو ما يعرفه الجميع في الأردن. ونحن دائمًا نطالب بتفعيل مواد التذوق الجمالي والتي تحرض على التفكير الإيجابي لكن دون جدوى.
ماذا عن استقلالية الفنان، تجاه الأحداث السياسية التي تعصف بالمنطقة، هل أنتِ مع أخذ مسافة منها أم على الفنان أن يسجل موقف؟
بالتأكيد، هو الفنان من عليه أن يسجل موقفًا. الفنان بلا موقف لا يساوي شيئًا. وعلى الفنان أن يكون متابعًا للأحداث الاجتماعية والسياسية لأنه فرد مؤثر ولكي يستطيع أن يوثق لهذه المرحلة إما من خلال أغنية أو قصيدة أو مسرحية. أما إذا أخذ موقع الهامش وأصبح في دور المتفرج، فهذا الفنان جبان. ولكن يجب أن يكون ذكيًا في هذا الموقف، وليس انتهازيًا، إذا كان الموقف غائمًا وضبابيًا، عليه أن يتركه إلى أن تتضح الصورة وألَّا يكون متسرعًا في آرائه. لكن يجب أن يكون لديه رأي وأن يقف دائمًا ضد الظلم والأشياء الكبيرة الواضحة، إذا حيّد عن هذا فهو انتهازي ويذهب ويأتي مع التيار وأنا ضده، لأن الأمور ستتضح في الآخر. ليس ضروريًا أن تعلن رأيك مع هذا الطرف أو ذاك، لكن عليك أن تكون ضد التهجير والقتل. دون أن تشخصن الأشياء. لأن الشخصنة سوف..
مكادي نحاس: إذا أخذ الفنان موقع الهامش وأصبح في دور المتفرج فهذا الفنان مجرد جبان
تُستغل؟
بالضبط ولكن كيف تستغل، خذ مثلًا: في بدايات الثورة السورية، أحد الفنانين خرج في المظاهرات عكس ما توقع الناس وعكس ما هو مفترض. هذا حدث في أوائل الثورة السورية، وفي نصف الأحداث، غير رأيه. بالنسبة لي لا أحترمه بعد الآن. والناس لا تنسى هذا الموضوع. من الضرورة أن يكون للفنان موقف، لكن عليه أن يجيد ماذا ومتى عليه أن يحكي، وهو الذي عليه أن يتكلم خصوصًا وأن الفنان هو القادر على جمع الناس حوله. خصوصًا إذا كان الفنان محترمًا وذا قيمة من جميع الطبقات العليا والشعبية. فيروز هي الوحيدة التي استطاعت أن تجمع اللبنانيين بعد الحرب الأهلية.
لكن فيروز إلى حد ما، كانت صامتة؟
لأنها ذكية. لكن كل أعمال السيدة فيروز ضد الظلم والاحتلال وإسرائيل وهو أمر مفروغ منه. على الفنان أن يتحلى بذكاء.
لماذا لا تصلنا أصوات غنائية جديدة من الأردن؟
لأنه ليس من أولوياتنا أن نظهر أصوات غنائية ولا مثقفين، هذا آخر ما تفكر فيه الحكومات في الأردن. إذا ظهر برنامج معين، يشجعون هذا الفنان ثم يعود إلى البلد ولا يجد ما يفعله. ليس لدينا شركات إنتاج مثل لبنان ومصر. ليس لدينا وعي لأهمية هذا الفنان. الأردنيون نفوا غالب هلسا إلى الشام وأبي كان ممنوعًا أن تباع كتبه في الأردن. هناك معاداة للثقافة في الأردن، غير ثقافة البدو والثقافة الموالية جدًا، ثقافة العسكر والجيش .. إلخ. هناك محاولات فتية لكنها متواضعة لأن لا يوجد دعم مالي ولا جماهيري. الكل يعمل بجهود منفردة. من يستطيع الخروج، يعمل وينتشر. وأيضًا في الخارج هنالك عداء. إذا لم تكن مصريًا، أو لبنانيًا، فستتعرض لمعوقات، لأنه إذا ما كان بلدك، صاحب ثقل ثقافي وتاريخي فلن تستطيع أن تجتاز الحواجز، بكل بساطة وصراحة. نحن لسنا مصر ولا لبنان وليس لدينا فلوس الخليج لإنتاج فنانين وليس لدينا تاريخ.
أنتِ صريحة جدًا..!
(تضحك ساخرة) هل أتخبأ وراء أصبعي. الأمر فعلًا مضحك. أنا الأردنية أبًا عن جد أغني بالإمارات وحدها أكثر مما أغني في الأردن. ونفس الأمر بالنسبة لغنائي وحفلاتي في المغرب العربي وأوروبا هو أكثر من الأردن.
على المستوى الشعري، لديكِ نصوصك، لو تحدثيني عن هذا الجانب في تجربتك؟
طبعًا، لدي نصوص أحتفظ بها منذ كان عمري ثلاثة عشرة سنة. أعود لقراءتها وأعمل عليها من جديد. كان والدي قد قرأ لي بعض الكتابات، وأراد أن يجمعها في كتاب، كان يقول: سوف أجعل منكِ كاتبة عظيمة. لأنه وجد، حسب رأيه الشخصي، مفردات ومشاعر ليست بعمر الطفلة بعمر الثلاثة عشرة سنة. فأراد أن يشتغل على هذا الأمر لينميه، اشتغلنا بعض الوقت، لكني اتجهت للغناء. لذا يساعدني كثيرًا هذا الأمر، أنني أستطيع الكتابة أعني كتابة أغنياتي وأشعر أن كتابة الفنان لأغنيته تجعل الأمر أصدق. ليس بأن تأتي بشخص يكتب ويلحن لك. عندما تنجز العمل بنفسك، فهو يعبر بصدق عنك، حتى لو الناس لم تستسيغه في البداية. ولكن ستشعر فعليًا أنها تجربة متكاملة لهذا الشخص.
مكادي نحاس: ليس من أولوياتنا أن نظهر أصوات غنائية ولا مثقفين، هذا آخر ما تفكر فيه الحكومات في الأردن
والتلحين أيضًا؟
نعم. في ألبوم "نور" لحنت خمس أغنيات. لا أريد المقارنة بالغرب، لكن الفنان هناك شامل ومتكامل. أما نحن، نذهب للملحن نطلب أغنية جبلية، يأتي ملحن مختص ويلحنها له.. وهكذا. ليس هو من يشتغل أغنيته، بل هو مؤد فقط. هو ليس من يخلق الأغنية كجنين ثم يربيه وينشره. وهذا الأمر ليس سهلًا.
أنتِ غنيتِ لشعراء مبدعين في العالم العرب؟
بالتأكيد. وهذا جزء من التجربة. أنظر، قبل أن أكتب وألحن في ألبوم نور، وقبل أن أتعاون مع هؤلاء الشعراء الجميلين، كنت أقول: "لدينا أزمة كلمة في العالم العربي". تصلني مئات النصوص الشعرية على الإنترنت والإيميل والفيسبوك. وهي أشياء تدعو للضحك. يقول لك أحدهم: "ما رأيك بهذه، إنها فكرة جديدة". ومن هؤلاء ليسوا شعراء فقط أناس تأتي لديهم أفكار ومن ثم يقدمون أنفسهم على أنهم شعراء ومنهم من يقلد طلال حيدر أو صلاح شاهين. لا أحد منهم يبدع اتجاهًا أو لغة أو صوتًا شعريًا جديدًا، لذا كنت أرى أن لدينا أزمة كلمة، ولا زالت. لدينا شعراء كبار في العالم العربي، لكن تم استهلاكهم. صاروا مستهلكين إلى درجة أنهم لم يعودوا مقنعين. لقد وفقت بمجموعة جميلة من الشعراء وأنا أيضًا أكتب محاولة أن آتي بأفكار جديدة لخلق ما هو مختلف.
تحدثتِ عن الوالد الراحل.. وكنتِ أهديتيهِ ألبومًا "إلى سالم" الذي تضمن أغنية "يا ظلام السجن".. لو تحدثينا عن هذه التجربة؟
توفي والدي قبل سنة من إصدار هذا العمل. دعني أخبرك أمرًا. لا أريد أن أتحدث عنه بالقول بابا شجعني وإلخ. سأروي لك حدثًا من بدايات نيتي دخول عالم الغناء. ماذا كان موقف والدي. أبي قال لي بالحرف الواحد: "غني، إذا الناس التفتت إليكِ وتشجعوا واشتروا بطاقة وحضروا حفلاتك، معناه أنكِ نجحتِ، إذا لا فعليكِ أن تختاري شيئًا آخر لتعمليه، لأن الموضوع ليس سهلًا، لذا أمامكِ خياران". وهو ما حدث فعليًا. والدي لم يكن إنسانًا مباشرًا، كان يحكي بالإيماء، أو العبر، بأن نكون مجتمعين في البيت، فيذكر قصة أو حكاية كي نستلهم منها ما يريد أن يوصله. كان شاعرًا وأديبًا، لذا كان يستخدم المجاز والرمز لإيصال الفكرة، وهذا ما رباني. كان دائمًا مبتسمًا، كان شخصًا لطيفًا وصوته لا يعلو. حساس. دائمًا كنا نتعامل بهذه الطريقة. يقترح الأشياء ولا يفرضها، يستشير ولا يأمر: ما رأيك، ماذا نعمل؟ وهكذا. لقد أثر فيَّ كثيرًا، حتى بعد أن مرض.. وقبل مرضه، كان يأتي ويحضر حفلاتي ويجلس في الكرسي الأخير، يتفرج ويراقب الناس. دون أن يريني أنه جاء، لأنه كان آخر من يدخل الحفلة. لكني كنت أراه كل مرة. وعندما مرض. جاء مرة وحضر الحفلة، كان يبكي. (تخنقها العبرة). لك أن تتخيل هذا الشعور (تصمت).
لماذا "يا ظلام السجن"؟
تربيت في بيت سياسي. والدي كان منخرط جدًا في السياسة. كان دائمًا مع القضية الفلسطينية وحقوق الناس. وسجن أكثر من مرة، في أحداث نيسان/أبريل وغيرها، وكنا، نذهب لزيارته في السجن. كان والدي مشاغبًا جدًا. الملك حسين كان يقول: "تعال استلم وزارة، لديك أفكار جميلة. فيرد، لن تشتروني". ونحن كذلك أصبحنا، أناسٌ لا يُشتَرون. كل إخواني (مستقلين) حتى في مهنهم. لا يعملون عند أحد. وهذا الذي كسبناه من والدي وتجربته وحياته. و"يا ظلام السجن" جاءت في هذا السياق.
كنا في المناسبات العائلية نغني موطني وليس الأغنيات التي يغنيها الناس. أغنية "يا ظلام السجن" تذكرني بحياة أبي، وكيف كنا نرى فلسطين. وإلى الآن. هي كتبت أيام الاحتلال الفرنسي لسوريا، ولكن للأسف تشبه الزمن الذي نعيش فيه. ومن هنا يأتي مكمن قوة الأغنيات الحقيقية التي تشبه الناس الذين يكتبونها، يا ظلام السجن خيم، أغنية لها زمن، ولا زالت منذ ذلك الوقت تُغنى والناس لا زالت تتأثر بها، وصدقني إذا الأمر ليس حقيقيًا الناس لا تتأثر به. إنها تشبه هذا الوقت الذي يمر فيه العالم العربي.
اقرأ/ي أيضًا:
نادين الخالدي.. نحن أيضًا شعوب تحب الطرب
السارة والنوباتونز.. أوديسة موسيقيّة في بيروت