يبدو أن تعلم اللغات الأوروبية قد أتاح للكثير من اللاجئين العرب فرصة الاطلاع على تاريخ الشعوب الأوروبية، وفهم علاقاتها ومعرفة الكثير عن مسيرة التطور الذي شهدته هذه الشعوب في صراعها الطويل لبناء دول ناجحة اجتماعيًا، ويبدو أيضًا أن الكثيرين قد انتبهوا إلى أن معرفة تلك اللغات قد أمنت لهم فسحة من التواصل البناء مع تلك الشعوب، بعيدًا عن منطق الخوف من الآخر الذي بني على أساسات مغلوطة غالبًا كتلك المقولة التي نسبت إلى الرسول العربي الكريم "من عرف لغة قوم أمن شرهم"، التي لا يوجد لها سند قوي وصحيح.
انتبه كثير من العرب إلى أن معرفة اللغات الأوروبية أمّنت لهم فسحة من التواصل البناء مع شعوبها
حرضت هذه الإرهاصات لدي تلك المفردة العربية العجيبة: "الملحمة"، حين قرأتها في قصيدة ركيكة كان قد كتبها أحد المتحمسين مادحًا جيش أحد البلدان العربية، مطالبًا إياه بسحق فلول المتمردين المطالبين بالتغيير، إذ وصف الشاعر الناشئ تلك المعارك التي تجري على ساحات البلدان العربية بالملاحم الحديثة، ونظرًا للأمان الذي أشعر به في بلدان القوم الغرباء الأوروبيين فقد ارتأيت أن أتعلم لغتي العربية أولًا، وأن أبحث فيها كي آمن الشر المستطير الذي تدفع به كلمات التحريض على القتل.
وبالعودة إلى بيت اللغة العربية الكبير نجد أن "الملحمة" لفظ لغوي يفيد عدة معانٍ، أحدها الحرب الضروس، ومكان التحام الجيوش كملحمة القادسية التي جمعت العرب والفرس في معركة فاصلة، وأحدها يفيد بالدلالة على مكان اقتطاع اللحم عن الحيوان بعد نحره، وأحدها ينتقل بنا نحو عالمي الواقع والأسطورة في شكل أدبي لتشد أذن السامع، ولتحكي عن تفاصيل الحضارات القديمة وبعض الأحداث التي دارت بها.
ولعل أشهر تلك الملاحم العالمية التي يعرفها العالم "الأوديسة" و"الإلياذة" للشاعر اليوناني الضرير هوميروس، حيث رصد حرب طروادة الشهيرة ومصائر أبطالها، ونقل لنا تلك القصة الغريبة عن حصان طروادة الخشبي العملاق الذي كان سببًا في سقوط المدينة، بعد أن اختبأ فيه مقاتلو إسبارطة المعادية، وتركوه خارج أسوار طروادة المنيعة المستعصية على السقوط، فظن الطرواديون أنهم قد انتصروا وأن الإسبارطيين قد انسحبوا فأدخلوا الحصان لمدينتهم وكان ما كان لاحقًا من سقوط.
غير أن حصان طروادة لا يقل أهمية عن مركبة "فيمانا فردية" التي كان يركبها المحارب العظيم "أرجنوس" في ملحمة "المهابهاراتا" الهندية، أثناء التطرق لحرب كرفاس والبندفاس التي أشعلتها الآلهة للتخفيف من زيادة البشر على الأرض. غير أن مركبات الفضاء في ملحمة "رامايانا" تنقلنا لحيز خيالي أوسع، فنجد أن الخائن روانا قد اختطف الأميرة سيتا بمركبته وطار بها إلى مستوى الشمس وفوق الغابات، وأن الملك راما حين علم بذلك امتطى هو الآخر مركبته الطائرة، وخاض معركة ضارية مع روانا واستطاع استعادة زوجته الأميرة.
أمام مراكب فضاء المللك راما التي ستنقذ الأميرة تسقط قباحة البراميل المتفجرة الطائرة
ولا تتوقف الملاحم في الهند أو اليونان بل تنطلق لتجوب العالم كله فمن مشوار جلجامش البابلي في بحثه عن عشبة الخلود في ملحمة جلجامش بعد أن فقد صديقه أنكيدو، إلى صراع كاليفا وبوهيولا على امتلاك الطاحونة السحرية المسماة "سامبو" في ملحمة "الكاليفالا" الفنلندية التي تبدأ قبل التاريخ الميلادي عندما عبد الفنلنديون إلههم الوثني Ukko، ومعناه "المسن، العجوز" وتنتهي بانتصار الديانة المسيحية، ستجد أن كل تلك الملاحم تحاول الاستفادة من عبر الصراع القاسي المرير الذي تتسبب به الحروب، فتمجد صفات البطولة والشجاعة التي يتحلى بها الأخيار فقط.
أمام هذه الملاحم الحقيقة تسقط ملاحم الجيوش التي تقتل الحريات وتكمم الأفواه، وأمام مراكب فضاء الملك راما التي ستنقذ الأميرة تسقط قباحة البراميل المتفجرة الطائرة، ويبقى حيًا في الأذهان أن البصيرة أقوى من البصر، وأن هوميروس الذي عاش قبل الميلاد بمئات السنين ما زال حيًا بذكره حتى الآن.
أطالع بناظري تلك اللوحة الرائعة التي رسمها الرسام الفرنسي ويليام أدولف بوغيرو، ابن بائع النبيذ، لهوميروس ومرشده الصغير راعي الماعز على جبل "إدا"، وأتخيله يشرب نخب البصيرة والبصراء حين يضع اللمسة الأخيرة من فرشاته على الشعر الأشيب للحية الشاعر، بينما أضع عنوانًا لمقالتي "ملحمة بلا أبطال".
اقرأ/ي أيضًا: