منح منذر جوابرة السياسة، بمعناها غير التقليدي، وشكلها غير المُنمَّط؛ حريّة التصرّف في لوحاته التي أنجزها في السنوات الأخيرة الماضية، بحيث تُشكِّلها كيفما تشاء، دون أن تأخذها إلى أي مكانٍ تتحوّل فيه إلى منشوراتٍ سياسية، أو شعارات تُدخلها دائرة التنميط وتكرار المُكرَّر. الفنّان الفلسطينيّ، وعلى مدار 10 سنوات تقريبًا، ربط لوحته بالسياسة، ودفع بها لخوض غمارها، والنتيجة أن تحوّلت السياسة نفسها إلى معادلةٍ بدا أنّ جوابرة، لا سيما مؤخّرًا، على وقع الاضطّرابات والثورات العربية، لا يُفكّر في الخروج منها.
شغلت الحدث السياسي الفنان منذر جوابرة حتى صار محورًا أساسيًا يذهب نحوه لإعادة تناوله أو صياغته
شغلت السياسية إذًا منذر جوابرة، أو شغله الحدث السياسي تحديدًا. ولا نبالغ إن قلنا بأنّ الأخير، على اختلاف زمانه ومكانه، صار محورًا أساسيًا عنده، يذهب نحوه لإعادة تناوله أو صياغته وفقًا لما يراه أولًا، ولما هو عليه حال وواقع المكان المُحيط به ثانيًا، وليس وفقًا لما تمليه عليه أفكاره. "الأعمال الماضية قدّمت قراءات مرتبطة بالواقع الفلسطيني وتحوّلاته السياسية ما قبل وبعد اتفاقية أوسلو، دون أن تكون القراءات نفسها شخصية، وإنّما جماعية، بمعنى أنّ اللوحة التي أنجزتها كانت تتحدّث بصوت الآخرين". يقول الفنّان الفلسطينيّ في حديثه لـ"ألترا صوت"، فيبدو، عبر ما ذكره، معنيًا بإعادة ترتيب وقائع الأحداث بالطريقة التي تمنحُ الذاكرة الفردية والجماعية في آن، مرونة وحرّية أوسع في التعامل معه، واستعادته في أزمنة لاحقة/ قادمة.
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة منذر جوابرة
عكف جوابرة على التنقّل بين المكان المُحيط به، وأمكنةٍ أخرى بعيدة لا يصلها، وإنّما تصلهُ أخبارها فقط. اشتغل على الذاكرة لئلا تُمحى، على الأقلّ عنده، واشتغل على ذاكرة أمكنةٍ أخرى مُغايرة، خارج حدود مكانه. وإذ بالفنّان الفلسطينيّ يبدو وكأنّه كشّافًا يحملُ فانوسه ويسير مستكشفًا مُحيطه وما هو أبعد منه، علّه يجد ما يستحق الاشتباك معه، داخل حدود اللوحة طبعًا. فيما مضى، رأيناه يفتح دائرة الاشتباك مع شخصية "الملثّم" الذي صرف جهدًا في رسمه، بعيدًا عن صورته النمطية وتناوله كعنوانٍ لأزمنةٍ مقاومة مضت دون عودة كما تُخبّر وتحكي لوحاته لمتلقّيها، تلك التي استثمرت رمزية "الملثّم" بُغية اقتراح حوار لا بينها وبين المتفرّج، وإنّما بينه وبين "الملثّم" مباشرةً.
يعرف صاحب "علّو" أنّ الحوار الذي يقترحه سينفتح سريعًا على مساحاتٍ تحتشد بالأسئلة التي بنى عليها أساسًا لوحته، والهدف مشاركتها مع المتفرّج الذي سوف يسأل، شأنه شأن جوابرة، عمّا حل بـ"الملثّم"، مُستفسرًا عن تاريخ عودته، وعودة الزمن الذي يُحيل إليه أيضًا. هكذا، يكون جوابرة قد اتّخذ منه مرآةً تعكس مآلات الواقع الفلسطيني ما بعد اتفاقية أوسلو. وفي الوقت نفسه، يُحاول هزّ الصورة النمطية والبطولية التي لطالما رافقته، مُحاولًا بذلك، وبرفقة المتفرّج، مُحاكمة زمن قائم عنوانه: ما بعد أوسلو. والخلاصة أنّ جوابرة قدّم فيما مضى فنًّا سياسيًا خالصًا، أو فنًّا وظيفته قراءة ما يدور حوله، والتعبير عنه بعيدًا عن الخيال.
يذهب منذر جوابرة في معرضه الأخير نحو هدم كلّ ما بناه قبلًا ليُعيد صياغة أعماله القديمة بأشكالٍ جديدة
لكنّه الآن في معرضه الجديد "حافّة" الذي تستضيفه "غاليري أوروبيا" في العاصمة الفرنسية باريس، يذهب نحو هدم كلّ ما بناه قبلًا ليُعيد صياغة أعماله القديمة بأشكالٍ جديدة هي، دون شك – بالإضافة إلى أنّها متّسقة مع ما نعيشه من تصعيد في أشياء كثيرة أبرزها الهدم – حصيلة أو نتيجة أفكاره التي يبدو أنّها تعرّضت إلى هزّاتٍ عديدة أطاحت بما هو قديم لصالح ما نبت حديثًا في خيال الفنّان الفلسطيني الذي يصف لـ"ألترا صوت" ما تغيّر بقوله إنّه على أعتاب مرحلة جديدة مُختلفة عن سابقتها. "إنّها مرحلة تخيّل وليست تعبيرًا. وتأتي معاكسة لسابقاتها، وإن كانت مشيّدة أساسًا على تراث الماضي الذي بات حاضرًا. والقصد هنا أنّ الأعمال القديمة نفسها أعدت تدويرها وصياغتها بحيث أستطيع إعادة تقديمها بشكلها الجديد والمختلف. الأمر برمّته لم يكن سهلًا، لأنّه يحتاج إلى تضحية باللوحات القديمة التي قطّعتها إلى شرائط طولية تمهيدًا لدمجها ببعضها، والنتيجة كانت لوحة تجمع عملان معًا، يختلفان بالزمان والمكان".
اقرأ/ي أيضًا: منذر جوابرة.. "عُلو" كالموت والألم
يعرف منذر جوابرة جيدًا أنّ مشروعه الجديد، أو مغامرته الجديدة إن صحّ القول، ليست مضمونة النتائج. ومن هنا تحديدًا جاءت فكرة العنوان: "حافة" ليُعبّر عن خطورة ما اشتغل عليه، إذ إنّ المقصود منه هو: "الوقوف على نهاية طريق، والاستعداد للوقوف على أعتاب طريق أخرى، أو هوّة ضخمة، إمّا أن أسقط فيها، أو أن أتجاوزها وصولًا لما أريده. وأعتقد أنّ التسمية الصحيحة لما فعلته هو إعادة تفكيك اللوحة وتركيبها بطريقة مختلفة تُحيل في النهاية، عبر جمعها لكلّ ما عبّرت عنه أعمالي بشكلها السابق، أي منفردة، إلى مساحات أوسع للتعبير، تُمهّد للخروج من الدائرة التي ظلّت تدور في فلكها. أمّا المرحلة القادمة، فهي هدم وإعادة بناء".
اقرأ/ي أيضًا: