ذات حكاية، عرف شعب كيف يبني سدًا في وجه الطوفان، ومن وقتها لم يعد بحاجة إلى تقديم أضحية دموية إلى إله الطوفان. وبما أنه لم تعد هناك أضاحٍ، فقد مات من الجوع. ومثله ستموت الآلهة الأخرى، التي يتم التضرع إليها لدرء الأمراض، والمجاعات، والجفاف. وهكذا، مات الإله في المجتمعات المتقدمة جوعًا. أما الإله في منطقتنا فما زال حيًا، يعتاش على قرابين الكوارث، والمجاعات، والأمراض، والأهم من ذلك، على غياب العدالة، والحرية في ظل أنظمة الدكتاتوريات العسكرية، والإيديولوجيات الدينية. وسيبقى حيًا بقدر ما يحتاج إليه الناس البسطاء، توهمًا تعويضيًا عن خذلانهم وضعفهم في الحياة، وقد تحولوا هم أنفسهم إلى قرابين دموية.
مع الربيع العري، انتهى الدور التاريخي ووظائف التخريب المناطة بالستالينيات الدكتاتورية العسكرية العربية
ولكن الإله يتشكل أيضًا حسب متطلبات قوى الظلم والظلامية، التي تسيطر على مجتمعاتنا. فلكل دين، وطائفة، ومذهب، ومثلهم العشيرة، والعائلة، وأي تكتل سياسي أو اجتماعي، إلهًا مقدسًا خاصًا. والمريدون في مجموعتهم لا يعترفون سوى بإلههم، تعبيرًا عن امتلاكهم "الحقيقة الأسطورية المطلقة".
اقرأ/ي أيضًا: برنار نويل.. مقيمًا في الذاكرة
وإذا كان إله البسطاء عاجز، دون أن "يستطيع إيقاف المجازر الدموية والخراب"، فإن إله الظلم والظلامية الدموي قوي، يعيش على التفتت والتناحر، ومن القرابين البشرية. وهو يتجسد بدكتاتور عسكري، أو زعيم عشيرة، أو رجل دين، أو زعيم ميليشيا ـ مافيا، فهم جميعهم آلهة، وسيرفع مريدوه تماثيله في الساحات، والأهم في العقول، ويمارسون شعائر تقديسه.
وإذا كان إله الضعفاء يعد مريديه بفردوس مادي حسي، وسيفتتح جحيمًا لأعدائهم، فإن إله الظلم المتجسد هو عملي أكثر. فهو يوزع غنائم فردوسه على مريديه مباشرة، وينحر أعداءه بالسيف، أو يدفنهم أحياء تحت براميله المتفجرة، فلماذا التأجيل لما بعد الموت، والثواب والعقاب جاهز مباشرة.
حلم الناس بـ"ربيع عربي"، وبدءوا بتحطيم تماثيل الآلهة في الشوارع، وفي والعقول، فقد انتهى الدور التاريخي، ووظائف التخريب المناطة بالستالينيات الدكتاتورية العسكرية العربية. لكن من كان يعرف بالنار المختبئة تحت الرماد، فقد انفجرت عهود متراكمة في اللاوعي من "الاستبداد الشرقي"، و"عسكرة المجتمع"، و"العنف الديني ـ المذهبي ـ الطائفي".
ستنجو دول الخليج من هزة "الربيع العربي"، محصنة بأموال البترو ـ دولار، الموجهة لدعم "التنظيمات الدينية". وستوجه إيران أموال نفطها إلى ميليشياتها الشيعية، بحثًا عن سرداب أوهامها، اعتمادًا على رؤى "شيوخ ممسوسين". وسيحول الروس أجساد السوريين إلى حقل تجارب لأسلحة دمارهم، بما فيها الصواريخ العابرة للقارات، من أجل بيعها تحت ماركة دولية "تم تجريبه في سوريا". وفي أثناء ذلك، يتفرج الغرب على المذابح اليومية للشعوب، فإذا سادت أنظمة ديمقراطية في منطقتنا، فكيف سيجد أغبياء من العسكر المجانين، وشيوخ العشائر، وزعماء الطوائف والمافيات، يمنحون ثروات بلادهم مجانًا، ويشغّلون تجارة أسلحتهم بنزاعتهم.
إذا سادت أنظمة ديمقراطية في منطقتنا، فكيف سيجد أغبياء من العسكر المجانين، وشيوخ العشائر، وزعماء الطوائف والمافيات، يمنحون ثروات بلادهم مجانًا؟
في تجربتي الروائية، أعتمد السريالية والواقعية السحرية والفانتازيا كأسلوب تعبير عن حوادث واقعية، أكسر بها حدود الزمان والمكان. ولذلك، في رواية "وصايا الغبار"، 2011، يزور بطلي بطريقة الفانتازيا الساخرة "الجنة الإسلامية"، ومن ثم "الجنة الأمريكية"، القائمتين على تنافس في المتعة الحسية الجنسية. وفي رواية "الغرانيق"، 2017، تحليل لشخصية الدكتاتور ـ الإله، مع إمكانية رصد تحول الثائر السلمي إلى متمرد إسلامي عند اللجوء إلى العنف. وفي "سرير على الجبهة"، 2019 ، تحدثت عن الخراب الذي حملته الأنظمة الدكتاتورية للمجتمعات بعد "ثورات الربيع العربي"، مع تشريح للبنية التاريخية الطائفية لها.
اقرأ/ي أيضًا: سرايا بنت الغول: الخرافيّة وواقعيتُها
لكن الواقع لا يزال يحمل غنى المواجهة أكثر، وتحدي المحرمات، وعلى الرواية مواجهة تزييف الواقع من قبل "البوط العسكري" و"السيف الإسلامي"، فإلى أي مدى ستذهب في هذه المواجهة؟
اقرأ/ي أيضًا:
رواية "سيدة الفندق" ليوسف آتيلغان.. أحداث مضطربة مثل تاريخ بلد