09-يوليو-2024
كاريكاتير لـ أروى مقبل/ اليمن

كاريكاتير لـ أروى مقبل/ اليمن

لم أعش الصدمة المباشرة للحدث، لم أفقد روحًا أو يدًا، لم أسمع الصاروخ يفجّر مبنى مقابلًا لي فيختلط في نفسي الحزن والهلع، لكني شاهدت كلّ هذا!

من قلب عمّان كنت شاهدةً على المجزرة، فُجِعتُ وكانت ميتتي المعنوية تشرح الأذى، لكن المناجاة هي ما ظل يكسرني؛ لقد نادوني كثيرًا، وعبرت أياديهم شاشتي قبل الرحيل ولم أصنع شيئًا، ولكني أخبركم جميعًا أنّ شيئًا عظيمًا قد صُنع بي.

دخلت قسم طوارئ النساء في إحدى مستشفيات الأردن، ففُتح باب الطوارئ فجأة من قِبل عاملة النظافة التي كانت تحمل ممسحة الأرض (الشريطة) بيدها، فتمثلت لي الممسحة أشلاء. شقّت السكين إصبعي فأسكَتُّ ألمي بسؤال قهري في رأسي: كيف تُبتَر أطرافُهم بلا مخدّر؟! حملت طفلي نائمًا إلى غرفته ومررت بالمرآة فتراءت لي امرأة من غزة كانت تحمل ابنها ميتًا وتصيح، شعرت بأنّها نعمة كثيرة عليّ: أن أكون أمًّا والثكالى ينوحون حولي.

أنا الشاهدة على المجزرة بيني وبين الراحة حربٌ، وكثير من الثكالى

أعيش شعور الذنب وعدم الاستحقاق واحتقار الذات والحزن والغضب، والعجز حتى عن صياغة عبارات التعازي والتصبّر، لأنّ القطاع كله تحوّل إلى خيمة عزاء كبيرة؛ من تعزّيه اليوم قد تعزي به غدًا، إلى أن يتنامى خوفك من ألا تجد من تعزيه من أهل القطاع وتموت قهرًا عليهم.

بعد أن أعلن الأصدقاء على منصة الفيسبوك استشهاد الصديقة مريم أُصِبت لأول مرة بنوبات كهربائية؛ ليلتئذٍ تعرضت لثلاث نوبات، ليس الموت ما فجعني تحديدًا، بل مشهد الثانية التي عاشتها مريم قبل الموت، إذ كانت تُعبّر عن خوفها وهروبها إلى الشارع والمدارس وتتساءل: وين أروح؟

تخيلت بعد كل محاولة النجاة هذه اللحظةَ التي شاهدتْ انهيار كل شيء عليها، وعرَفَتْ أنّ ما تفر منه قد جاء. لا بد أنّها كانت مرعوبة وحزينة، هذه اللحظة المتخيلة عنها هي التي عملت على اضطراب كهرباء الشق الأيمن من دماغي. 

الأسماء المكتوبة على أرجل الأطفال جعلتني أنظر لكل الأقدام من حولي مسمّاة باسم صاحبها، هذا العضو ترجع ملكيته لهذا الفلان، تحوّلت القدم إلى كوشان، لم أستطع أن أزيل أثر الصورة من عيني. إنّ العضو العليل عندكم لا يكسر قلبي فحسب، بل يدمر العضو ذاته عندي، إنّه تماهٍ عضوي مؤلم، وأنا أقف على كل هذا وأقول: دعوا الناس تعيش، ودعوني أعيش.

شيء ما تحطم في النفس منذ السابع من أكتوبر ولا أظنه يُجبر، لقد ضُربت في قيمتي وعروبتي وإنسانيتي وحتى عقيدتي. إنها صفعة يقظة لكل إنسان في العالم؛ أن يعرف أنّ العالم البراغماتي يسير على جسده لو رفض أن يكون سُلمًا له، جعلني هذا كله أقف يومًا عند ناصية علم في وسط البلد وتدمع عيناي، كان دمعًا مخذولًا من الوطن الذي صاغ في مناهجه التعليمية الوحدة الوطنية كقيمة لا تسقط، وسقطت، بكيت أمام العلم قهرًا وخذلانًا.

إنّ الأجساد قبور للمظلومين، لا تستطيع الروح الخروج من الحصار، والنظر إلى العالم خارج المعابر، متجاوزة الدبابات والجنود والأسيجة والحكومة وأميركا والمتواطئين، يُبقي الجسد روحَك حيثما وُجد؛ في الأسر أو الخيم أو تحت الركام، لا مفر!

فهمت هذه الفترة لماذا يقولون عبارة "على قيد الحياة"؛ لأنّ الحياة قيد لا ينفك منه المرء إلا بالموت. ولمّا كان الموت هو الحتمية الأقوى والأزلية في الوجود فقد تقبّلناه، ولكن لم نتقبّل أن يكون هكذا، ليس بهذه الطريقة، ولا هذه السرعة، وليس قبل أن تُمنح الروح فرصةً لرؤية الحياة قبل أن تموت.

إنّها صدمة ثانوية Second Trauma، وهي الصدمة التي يعيشها الإنسان بشكل غير مباشر؛ كأن يكون شاهدًا على الحدث، أو يسمع تفاصيله ممن تعرضوا له. صدمة الإنسان الذي يشاهد المجزرة بتقنيات متقدمة صوتًا وصورة ووضوح عالٍ لأثر المزع في الجلود، وجمجمة الطفل المكسورة، ترى حواف الرأس المهشم، وأنسجة الرقبة بعد تمزق الرأس عنها، تشاهد الوريد النازف بوضوح شديد تحت اللحم المفتوح، وتسمع آهات الفاقدين وعبارات التصبر والرجاء وصرخات الخوف، ونداءات العرب الكثيرة، ويحنا! كم نادانا الشهيد قبل أن يتشظى!

أما "الموت جوعًا" فهو العنوان الذي ظلّ مدخلًا لتأنيب الضمير عندي كلما فتحت فمي لآكل؛ كيف آكل والأطفال تتسمم من أوراق الأشجار، والعلف، والتراب؟ إني أخجل أن تتلاقى عيني بعين طفل جائع في فيديو إخباري، أن آكل وأطفال غزة يتحولون لهياكل عظمية من الجوع، من أنا لأتغذى أمام الأمعاء الخاوية؟!

إنّها صدمة بصرية وفكرية وصوتية؛ ما زال صوت الأم المفجوعة لخسارة أبنائها يصيح في رأسي "الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا"، ومناداة "يا كمال يا كمال"، ومكالمة سراج مع أمه بعد محاصرته "ادعيلي يمة أنا جوا"، والتعب العظيم في عبارة "بكفي يا عالم". إنّها أصوات لا تسكت، أحس أنّ هناك أنينًا في أذني، لا طنينًا.

يمر بي الأصدقاء، يخبروني بضرورة المقاومة النفسية، وعدم الانزلاق في الاكتئاب، وكنت كلما شكوتُ سأم الحياة عدَّدوا عليّ نِعم حياتي، وأخبروني أنّ غيري لا يجد قوت أطفاله، وينام بالخوف، ليتهم أدركوا أنّ هذا الذي يعزونني به هو سبب حزني وسخطي، أنا الشاهدة على المجزرة بيني وبين الراحة حربٌ، وكثير من الثكالى.

كل يوم، كل نشاط، كل لقطة بصرية لي تقفون فيها أمامي يا أبناء أمي المذبوحين، يصيبني غثيان شديد، كالذي يصيب القلِق من موت قريب، هذا عَرَض بشع يصيبني ويدلّني أنّ عقلي ما زال يرفض خوفكم وبردكم وموتكم.

ليت الفتى حجر، ليت الفتى مجنون، ليت الفتى لم يكن ولم يشهد..