في الـ18 من كانون الثاني/يناير الجاري، أعلنت إدارة مهرجان برلين السينمائي عن الأفلام المشاركة في بعض أقسامها لعام 2024، من بينها قسم "البانوراما" الذي لم يكن فيه ما يلفت الانتباه، ويستدعي التوقف، سوى ادعاء رئيسه، مايكل ستونز، بأن الأفلام المشاركة فيه تعكس ما يواجهه عالمنا من أزماتٍ وحروبٍ وانقساماتٍ اجتماعية.
اللافت أكثر هو اختيار ستونز، وكذلك العديد من الصحف والمواقع التي قامت بتغطية الخبر، من هذا الادعاء عنوانًا عريضًا لقسم "البانوراما"، إن لم يكن للمهرجان برمته. مع أن الأخير يتجاهل، وبوضوح، الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة، وكأنها تحدث في عالمٍ آخر غير عالمنا، الذي تعكس أفلام المهرجان حروبه وأزماته!
ليس تجاهل المهرجان للحرب الوحشية على غزة مجرد فصل جديد من فصول ازدواجية المعايير الغربية المعهودة، بل هو جزء من القبول الألماني للإبادة الجماعية فيها
وبدلًا من التركيز على غزة والوقوف عند مأساتها المستمرة منذ 109 أيام، اختارت إدارة المهرجان فيلمًا يتناول إحدى المآسي التي يواجهها الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة للمشاركة في القسم، الذي يبدو أن اختيار المهرجان له مرتبط بادعاءات القائمين عليه حول طبيعة المواضيع والقضايا التي تتناولها الأفلام المشاركة في هذا القسم، تمامًا كما لو أنه الفيلم الذي يمثّل المأساة التي يعيشها الفلسطينيون اليوم. فمن بين 31 فيلمًا مشاركًا، تحدّث ستونز في بيانه الصحفي عن عدة أفلام فقط، من بينها هذا الفيلم الذي يحمل عنوان "لا أرض أخرى".
يتناول الفيلم الوثائقي، بحسب البيان، قصة نضال ناشطَين إسرائيلي وفلسطيني ضد محاولات جيش الاحتلال تهجير سكان منطقة مسافر يطا بالضفة الغربية، مع التركيز على علاقة الصداقة بين هذين الناشطين كما ذكر البيان.
ورغم أن ما يتعرّض له الفلسطينيون في هذه المنطقة لا ينفصل عن ممارسات الاحتلال وجرائمه بحق الفلسطينيين في عموم البلاد، لكن ذلك لا يعفي من التساؤل عن أسباب الاكتفاء به وتجاهل أفلام أخرى أكثر شمولية في تناولها للمأساة الفلسطينية.
بل والتساؤل عن أسباب تجاهل غزة التي تناولت العديد من الأفلام واقعها وما تعرّضت له خلال حروب "إسرائيل" السابقة عليها طالما أن القسم مكرّس لأزمات العالم وحروبه، وما يحدث في غزة ليس أزمة ولا حتى مجرد حرب عادية، وإنما إبادة جماعية كاملة الأوصاف. وبالرغم من ذلك، تجاهلها المهرجان ولم يكلّف نفسه حتى عناء الإشارة إليها.
قد يبدو الأمر عاديًا وعابرًا، لكنه ليس كذلك لأنه جزءٌ من سلسلة ممارسات قمعية فاشية تسعى إلى نزع الشرعية والإنسانية عن كل ما هو فلسطيني لصالح دعم "إسرائيل" كمحاولة للتطهّر من عقدة ذنب قديمة، "الهولوكوست"، حتى وإن كان ذلك عبر تأييد ارتكاب إبادة جماعية جديدة، ولنقل تهمة معاداة السامية من الغرب إلى العالم العربي.
ولا يبدو اختيار الفيلم، بغض النظر عن حكايته وموضوعه، سوى شكلٍ من أشكال رفع الحرج في ظل تصاعد حدة الانتقادات ضد الحكومة الألمانية ومؤسساتها الثقافية، وكذلك المؤسسات المستقلة، التي لم تتوقف عن محاولات صرف النظر عما يحدث في غزة عبر قمع التظاهرات التضامنية معها ووصفها بأنها "معادية للسامية"، ومنع الطلاب من ارتداء الكوفية وربطها بـ"الإرهاب"، وحظر شعار "فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر"، إضافةً إلى إسكات أصوات منتقدي "إسرائيل" من غير الفلسطينيين، وإن كانوا يهودًا. كما لو أن حرية الرأي تنتهي عند حدود نقد "إسرائيل".
يسلط المهرجان الضوء إذًا على الأزمات التي يريد أن يُلقى عليها الضوء فقط. وعلى العكس مما فعله خلال العام الفائت، حين قرّر افتتاح دورته الـ73 عبر كلمة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سلّط فيها الضوء على الحرب في بلاده؛ يتجاهل مهرجان برلين عمدًا الحرب الوحشية على غزة ويهمّشها أيضًا.
وليس الأمر مجرد فصل جديد من فصول ازدواجية المعايير الغربية المعهودة، بل هو جزء من القبول الألماني للإبادة الجماعية في غزة، وفي الوقت نفسه محاولة لادعاء الموضوعية والإنصاف في تمثيل قضايا العالم، لكن بأفلام تقوم على المقولات التي يرضى عنها الرجل الأبيض.