يحتل الفنان في موريتانيا موقعًا تأثيريًا مهمًا ويعد فاعلًا مباشرًا في الميادين السياسية والاجتماعية، بوصفه أحد قادة الرأي المؤثرين في مجريات الحياة بشكل عام. وقد ظلّت العلاقة بين الفنانين والسياسيين في أحسن أحوالها طيلة العقود الثلاثة الماضية، من خلال استخدام السياسيين للفن كجسر للعبور إلى قلوب الموريتانيين، يمررون رسائلهم عبره ويخطبون من خلاله ود شرائح اجتماعية واسعة.
استخدم السياسيون الفن ليخطبوا من خلاله ودّ الشعب الموريتاني
وقد تميز الفنانون الموريتانيون بدفء علاقتهم مع السلطة وارتمائهم في كفتها دائمًا، ولم يؤثر عن أي منهم غالبًا معارضة الأنظمة السياسية التي عرفتها البلاد، سوى حالة نادرة جدًا مثلتها الفنانة الموريتانية المشهورة المعلومة بنت الميداح، التي كانت صوت المعارضة الصادح منذ إعلان التعددية الحزبية في موريتانيا بداية التسعينيات، قبل أن "تقتنع" أخيرًا ببرنامج الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وتعلن التحاقها بحزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم.
إلا أن الظروف الراهنة في موريتانيا أفرزت نمطًا جديدًا من الفنانين غير التقليديين ساهموا بشكل لافت في صناعة الرأي العام، وكانت هموم المواطن حاضرة بقوة خلال أغانيهم التي تدعو لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتطالب بتشغيل الشباب، وتدعو لحماية المسار الديمقراطي في البلاد.
ويتميز هؤلاء الفنانون في الغالب بأنهم لا ينحدرون من أسر فنية تحترف الغناء، ولا يتعاطون الفن على النحو التقليدي السائد في موريتانيا، وإنما هم شباب أحسوا بصعوبة الأوضاع التي تمر بها بلادهم، فطفقوا يعبرون عن ذلك من خلال أغانٍ تحث على توعية المواطن بحقوقه السياسية والاجتماعية، وتطالبه بالمزيد من النضال من أجلها، كما يقول حمادة سيدي عضو فرقة "أولاد لبلاد" وهي فرقة غنائية شبابية متخصصة في موسيقى الراب.
وتعد أغنية "كَيًمْ"، بمعنى ارحل، لأولاد لبلاد التي طالبت الرئيس الموريتاني بالرحيل عن السلطة، واتهمته بالفساد في التسيير، أبزر الأغاني في هذا المجال، خلقت صدى طيبًا في الأوساط السياسية والفنية الموريتانية، وتفاعل معها كثيرون خاصة ممن يُحسبون على التيار المعارض.
ولم تتوقف الأغاني السياسية عند هذا الحد، فقد أصدر فنان موريتاني آخر هو الشاب مراد أحمد زيدان، أغنية "يَخْليكم ذ حكم آش"، "أي حكم هذا؟!" تنتقد النظام وتحمله مسؤولية المشكلات السياسية والاجتماعية التي تشهدها البلاد، وتدعوه للرحيل عن السلطة، قبل أن يتم القبض عليه من طرف السلطات، التي حذرته من مواصلة هذا النهج، كما يقول، وحققت معه حول الجهات التي تقف وراءه، قبل أن تفرج عنه لاحقًا.
وقد تحوّل الجدل السياسي في موريتانيا، بين المعارضة والموالاة، من تراشق لفظي بالاتهامات إلى سجال فني خالص، حينما اتهم حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، على لسان عضو منظمته الشبابية عبد الله حرمة الله، رجل الأعمال الموريتاني المعارض المقيم في المغرب محمد بوعماتو بالوقوف وراء "أغنية أولاد لبلاد" التي تهاجم الرئيس الموريتاني وتدعوه لمغادرة السلطة، ووصفها بأنها "تدخل ضمن سلسلة من المؤامرات التي نفذها بعض رجال الأعمال والسياسيين من ضمنهم بوعماتو، لإلحاق الضرر بصورة البلد في الخارج".
وبعد فترة قليلة من إصدار هذه الأغنية، تم اعتقال حمادة سيدي عضو فرقة "أولاد لبلاد" بتهمة الاغتصاب وحيازة المخدرات، وهي اتهامات يرى حمادة أنها ملفقة وتستهدف نشاط الفرقة في محاولة لثنيها عن مسارها المعارض.
واعتبر المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة، أكبر تشكيلة سياسية معارضة في موريتانيا، أن التهم الموجهة لعضو فرقة "أولاد لبلاد" "تهم ملفقة" وغير صحيحة، داعيًا النظام الموريتاني إلى "الكف عن ملاحقة الوطنيين وتصحيح خطيئته المتمثلة في ملاحقة هذه الفرقة وإطلاق سراح معتقليهم".
أصدر الموالون للنظام الموريتاني أغنية "لا ترحل" لمواجهة المد الفني المعارض
وفي مواجهة المد الفني المعارض أصدر الموالون للنظام الحاكم أغنية "لا ترحل" التي تمجد الرئيس وتدعوه لمواصلة مساره في الحكم، كما تُشيد بما تحقق في عهده من "إنجازات" في مجالات البنية التحية والطرقية، وكذا المجالات السياسية والاجتماعية.
ويظهر في الفيديو كليب المرافق للأغنية التي تحاكي أغنية فرقة "أولاد لبلاد" من حيث النمط الغنائي، عدد من سكان الأحياء الفقيرة وهم يتحدثون عن إعجابهم بنظام الرئيس محمد عبد العزيز، ويشيدون بما "سموها" إنجازات ملموسة تحققت في عهده.
ويرى الأستاذ الجامعي والباحث الاجتماعي سيد محمد اجيٍدْ، أن من أهم خصائص التحول على مستوى الأغنية السياسية في موريتانيا هو "الطفرة النوعية التي حققتها وسائل التواصل الاجتماعي، وما أفرزته من تفاعل مع العالم الخارجي، واطلاع مباشر على تجارب مماثلة في بعض البلدان"، فضلًا "عن ما تجسده من تنامي الوعي السياسي والمدني في الأوساط الشبابية، وما ترمي إليه من ثورة على الأغنية التقليدية نفسها باعتبارها ذات طابع "تمجيدي".
واعتبر الدكتور اجيد أن هذه الأغاني تكشف "فشل النخب" في تبني خطاب سياسي مقنع بالنسبة لفئات شبابية عريضة، ما جعل الكثير من الشباب يحاول سحب البساط من تحت أقدام الساسة، ويريد أن يؤكد حضوره بقوة في النضال الديمقراطي بالطريقة التي يختارها، مشيرًا إلى أن هذه الأغاني تعد تعبيرا سلميًِا عن الذات، ولا ينبغي الوقوف في وجهها خشية أن تسلك منحى مغايرًا قد يفضى إلى ما لا تحمد عقباه.
ويرى كثير من المتابعين أن سر قوة الأغاني الجديدة لهؤلاء الفنانين، تعود أساسًا إلى بساطة الأساليب التعبيرية المستخدمة فيها، ومواءمتها بين الخطاب الفني والمستوى العلمي للفئات التي تستهدفها، فضلا عن ما سماه المدون الشيخ باب محمد الأمجد بـ"الوعي الفني" الذي يتحلى به الفنان الجديد، بوصفه حامل رسالة ذات مغزى ولا يمارس الفن بشكل اعتباطي، الفن لأجل الفن، كما كان سائدًا لدى معظم الفنانين الموريتانيين.