حطّتْ ذبابة على طاولة المقهى الخشبيّة. كانت تتنقّل مثل طائرة حربيّة نفّاثة بين فنجان قهوة الاكسبريس وطفّاية السجائر، وقارورة الماء الصغيرة ذات العلامة التجاريّة صابرين. أفرغتُ أكثر من نصف روح الصبر في جوفي. لم ينظّف النادل الطاولة، وجاء بقارورة الماء بلا كأس زجاجيّة. أجبرني على شيء أمقته، وهو الشرب من فم القارورة مباشرة. منحتُهُ بقشيشا في المرّات السابقة، بيد أنّ هذا لم يشفع لي ليأتيني بالكأس.
تسلّقتْ الذبابة صحن الفنجان. التحقتْ بها ذبابة أخرى صغيرة. هل دعتْ الكبيرةُ الصغيرةَ إلى هذه المأدبة؟ الذباب حشرات ذوّاقة ولا تختار إلاّ المآدب الفاخرة، لهذا السبب نجد هذه الحشرات بأغلب المطاعم والمقاهي. حاولت نشَّ النديميْن المزعجيْن عن الطاولة. كانا ذكرًا وأنثى.
أربكني انقطاع الماء هذه الأيّام، ولم يجبني فالنتينو على طلبي لفتاة مبتورة. عاودتُ طلبي هذا اليوم أيضا. كنتُ مزعوجًا. هيّج انزعاجي وجود الذباب. أمقتُ هذه الشياطين الصغيرة! أرغب بقتل هذه الحشرات لكبح إصرارها على إقلاق راحتي. أملكُ قدرةً عجيبةً على قتلها بيدي، إنّها موهبة فذّة ومتعة قديمة. يعجُّ المقهى الواقع وراء مصنع التبغ -وقرب محطّة المترو 13 أوت- بالروّاد. وجدتُ هذه الطاولة وكرسيّها اليتيم بشقّ الأنفس. التحقتْ ذبابةٌ ثالثةٌ. هل رائحتي بعد يومين بلا ماء هي السبب؟ تداولتْ الذبابات على أذني ورأسي ويدي، وكنت كلّ مرّة أَنُشُّهَا. اشتعلتْ فيَّ من جديد الرغبة بقتل هذه الحشرات.
أرديْتُ مرّة قرابة ثلاثة وثلاثين ذبابة في نصف ساعة. كان ذلك في التاسعة من عمري. قضّيتُ عامًا كاملًا قبل ذلك لأتعلّم تقنيات صيدها ودراسة حركات الذباب واستراتيجيّات تحرّكه. لو لم أدرس الهندسة الميكانيكيّة لكنتُ عالم حشرات، ولأنجزتُ أطروحة دكتوراه في علم نفس الذباب. كنتُ في مطبخ منزل العائلة في يوم صيفيّ حار. حلَّقَ قطيعٌ كبيرٌ من الذباب حول بقعة من الشاي الأحمر مسكوبة على الأرضيّة. لم تنظّفها أمّي لأنّها كانت تنعم بقيلولة حينها. تقاسمت الحشرات الوليمة الاستثنائيّة مثل قطيع من الأسود. تضعُ أمّي الكثير من السكّر في شايها الأحمر الثقيل. خطر ببالي أن أقوم بحملة إبادة جماعيّة، لأُلجمَ غريزة القتل الكامنة داخلي. يملكُ كلّ واحد منّا هذه الغريزة. اقتربتُ ببطء سلحفاة وقَطَعْتُ نَفَسِي. قرّبت يدي اليمنى، حرّكتها بسرعة وأغلقت كفّي بسرعة البرق لألتقط ذبابة أو ذبابتين. طار باقي السرب، وانتظرتُ عشرين ثانية أخرى. يعود الذباب إلى وليمته بعد ثوان، وسأعاودُ طقوس قنصه. كنتُ ألتقطُ الذباب بيدي اليسرى بعد أن أستشعر وجوده تحت أصابعي. أضغطُ بعدها على صدر الحشرة لأخرج أحشاءها فتخمدَ حركتها. أذهبُ بعد ذلك مباشرة لأغسل يدي جيّدا بالماء والصابون. هكذا أوصتني أمّي بأن أكون نظيفا. إنّها نظافة القاتل الحقيقيّة!
بقيت هذه العادة تُرافقني إلى الآن، مثل رقصة فولكلوريّة لشعب من الشعوب. أمارسُ هذه الهواية بعيدًا عن الأنظار. أعجزُ عن القتل العلنيّ. أشعلتُ سيجارة بعد واحدة أطفأتها منذ خمس دقائق. حرّضني هذا الذباب الملعون على الإمعان في حرق رئتيّ. تعلّمتُ التدخين بكليّة الهندسة. لم أقدر على التخلّص من هذه العادة إلى الآن. أشعلُ سيجارة عندما أكون منزعجًا. أحبّذ السجائر الوطنيّة "20 مارس" لأنّني من صنّاعها. سمّوا السيجارة تيمّنًا بعيد الاستقلال الوطنيّ. أعتقدُ أنّ ضرر الصناعة الوطنيّة أخفّ من المستوردة. تَروج أقاويل حول عزم الحكومة بيع وكالة التبغ لشركة أجنبيّة. يريدون التفريط في صدورنا ورئاتنا و"كَيْفِنَا" للأجانب. أدركُ أنّ الضرر واحد، لكنّني أتقبّل إساءة المنتوج الوطنيّ بصدر رحب.
تلهو إحدى الذبابات بقطعة رماد صغيرةٍ نُثِرَتْ على الطاولة. كانت تكوّرها بقائمتيها الأماميّتين. أتمنّى أن أنظر إلى عينيها مباشرة، لأفهم ما تفكّر فيه هذه اللّحظة. عاودت الذبابة الكبيرة الالتحاق بها. تركتْ الصغيرةُ لعبتها، ربّما بأمرٍ من الكبيرة! أخذتُ نفسًا عميقًا من السيجارة، كيْ أنسى عين الذبابة القبيحة. تذكّرتُ حالة غثيان غريبة أصابتني يومًا ما، بعد عثوري على صورة مكبّرة لهذه الحشرة بأحد كتب العلوم. كانت الأعين تمعنُ في تعذيبي. أحسستُ أنّني وقعتُ في بئر عميقة بلا قرار. توجدُ في عين الذبابة مجموعة آبار في شكل فتحات. لهذا السبب صرتُ سفّاح ذباب، وأتلذّذ بقطع أطرافه والاستمتاع برؤيته على هذه الشاكلة. الذباب منزوع الأطراف أجمل بكثير من السليم.
أملكُ موهبة في التفريق بين ذكور الذباب وإناثها. تدرّ ملَكَات مثل هذه أموالًا طائلة على بعضهم. أعرفُ صديقًا يعمل في أكبر مجمع لإنتاج الدواجن، ويتقاضى أجرًا كبيرًا لقاء عمله الجليل. تقضي مهمّته التفريق بين الكتكوت الذكر والأنثى. كان حريصًا على الإبقاء على سرّ علمه هذا. كان يُرسَلُ لتكوين بعض المختصّين في مجاله إلى دول إفريقيّة وأوروبية. لا زلتُ أتساءل أين تعلّم معارفه الأثيرة!
خلال اطّلاعي على قصّة النبيّ يونس، سمعتُ أنّ الذباب لا يقترب من القرع. يجب أن يستفيد مسؤولو النظافة في البلد من هذه المعلومة. يستطيعون تنظيم حملة وطنيّة لزرع القرع الأحمر ليقلّ حضور الذباب. أعتقد أنّه من المجدي تشجيع البحوث الجينيّة لإنتاج يقطين عملاق، يوضع في الساحات العامّة وقرب المباني الحكوميّة لحماية البلاد من هذه الحشرات وتحقيق جزء من الأمن الغذائيّ. سنؤمّن الظلّ للناس أيّام الحرّ بفضل أوراق هذه النباتات الكبيرة، مثلما فعل اللّه لنبيّه يونس عندما خرج من بطن الحوت. يونس الذي سمّيتُ باسمه، حتّى ولو كان ذلك عن طريق القرعة.
كنتُ منزعجًا، ليس بسبب الذباب وحسبُ بل بسبب انقطاع الماء. يمنعني ذلك من أن أطلب من فالنتينو إرسال واحدة من فتياته نهاية هذا الأسبوع. كيف أستقبل عاهرة راقية دون وجود الماء؟ أشعرُ بالاضطراب في هذه الأيّام العصيبة، وهذا يؤجّل اتّصالي بناريمان للتعرّف عليها وتحديد موعد للقائها. لا تزال أمّي تلحّ عليّ لأكلّم فريستها، منذ زيارتي الأخيرة. كانت تتّصلُ بي لتسألني "هلْ كلّمتَ ناريمان؟".
أعجزُ عن تحمّل هذا القصف اليوميّ. تَحوّلَ هذا السؤال إلى روحٍ شريّرةٍ. سأنحتُ قناعا مخيفًا على حبّة قرع حمراء، لأطردَ الشرّ مثلما يفعل الأوروبيّون في الهالووين.
- مقطع من رواية ستصدر قريبًا
اقرأ/ي أيضًا: