نَحُثُّ أولادنا على القراءة بحزمٍ - وهم في عُمر الزهور- فنُردِّدُ على آذانهم اقرأوا، اقرأوا، اقرأوا.. ماذا يقرأون، وكيف يقرأون؟!
هل ننتظرُ منهم أن يُراجعوا دروسهم بالتلقائية، ينجزون واجباتهم المدرسية، يكتبون، يرسمون، يُلوِّنون؟! ولمَّا نلحُّ عليهم بالأمر، يقنعوننا أنّهم، راجَعوا، وأنجَزوا، ورَسموا، ولَوّنوا.. وسيُثبتون، لنا ذلك، بفتحِ محافظهم؛ ليُطلِعونا على الحقيقة.
نَحُثُّ أولادنا على القراءةِ، راجين أن ينهمكوا في نهم الكُتب، لكنَّنا ما نلبثُ نأمُر مرّة ومرَّتين حتَّى ننزوي إلى تصفُّح هواتفنا
كثيرٌ منَّا يكون قدِ اشترى مِن المعرِض أوِ المكتبة كُتبًا بلا حسابٍ، وآخرين لا يهمُّهم غير الكُتب المدرسية وإن يسَّر الله حالهم لشراء سواها.
اقرأ/ي أيضًا: الحقّ في المكتبات العامّة وسؤال الديمقراطية
نَحُثُّ أولادنا على القراءةِ، راجين أن ينهمكوا في نهم الكُتب، لكنَّنا ما نلبثُ نأمُر مرّة ومرَّتين حتَّى ننزوي إلى تصفُّح هواتفنا عاكفين.
لعلّنا لم نقرأ يومًا أنَّه لا أحدَ يُحبُّ أن يتلقَّى الأوامر، حتَّى الجُندي في الثَّكَنة يُؤمَر فيُنفِّذُ كارهًا في بعضِ الأحايين. فِعلُ الأمر اقرأ، نزلَ به جبريل على أشرف المخلوقين صلواتُ ربّي وسلامه عليه؛ لأنَّه كان قد هُيِّئَ لاستقبال الوحي المُبين "سنُقرئكَ فلا تنسى". أمَّا نحنُ فإنَّ نفوسَنا ميَّالة للراحة، تكلُّ ممَّا ينفعها ترغبُ فيما يُتعبها؛ لأنَّها خُلِقتْ مريضة تظنُّ شِفاها في هَواها.
إذا كان أولادنا يُحبّون المَرح فلِمَ لا نقطَعْ من وقتِ راحتنا ونمرَح معًا، لنَتصاغَر كل يوم دقائقَ معدودة، ثمَّ سرعان ما نفتح الكُتب، لا شكَّ أنَّهم سيُقلِّدوننا وستصبح النَقلة عادة.
عندئذٍ نستطيع إخبارهم أنَّ القراءةَ ضرورة حياة وليستْ ترفًا كالمَرح!
السوادُ الأعظم منَّا –نحن العرب– لا يزال يحسبُ أنَّ القراءةَ هي ارتياد المؤسسات طوال المراحل الأربع، أو انقص منها أو زِدْ عليها، صحيح هذا نوعٌ مِن القراءة وهو مطلوبٌ ومحمودٌ، لكنّه لا يكفي!
لقد رأينا أساتذةً ودكاترةً وقُضاةً.. لا يُحسنون حتَّى التحيَّة، بل فيهم مَن لا يَردُّها أصلًا، وتارةً يكونون مجلبةً لاضطرام الصراعات في وظائفهم، فهلْ هؤلاء ليسوا بقارئين؟!
إنَّهم متعلِّمون؛ لأنَّهم تلقّوا مِن المؤسساتِ ما يؤهِّلهم لمُمارسة وظائفهم، لكنّهم لم يكتسبوا مِن مدرسة الحياة ما يجعلُ دواخلهم سليمة.
ورأينا الخبَّازين والبقَّالين والخيَّاطين حُكماء في أقوالهم وأفعالهم، يوزّعون الابتسامة على زبائنهم مجَّانًا طوال اليوم، لقد اقرأتهم مُحاكاة البيع والشراء كيف يُسيطِرون على القلوب "وإذا كُنَّا لا نُتقن ابتسامةً فلا داعٍ لأن نفتح متجرًا".
والحُكم يَختلفُ مِن أولئك إلى هؤلاء، وغير قابلٍ للتعميم.
فالقراءة شاملة إذًا، تتصَحَّح بحبّها المفاهيم، لِمَ أدركناه مِن صفحة الحياة خاطئًا، وحينما نقرأ، تزداد الأفكار اتساعًا، وتصبح مِدعاة للبحثِ في تجاربِ وكُتب المُفكِّرين.
ثمَّ إنَّ وجودنا على هذا الكون فارغين يزرعُ فينا الحسرة إذا ما قارنَّا أنفسَنا بأنفسِنا بين الماضي والحاضر ولمَسْنا الجُمود القرائي القائم؛ لأنَّنا لم نتنافسْ على الثَروة المُثلى لدى لعالَم.
جاركَ الذي يتطاول في البنيان ويتباهى بالمراكبِ، ناقمٌ على الدنيا إذا كان أولادُه لا يقرأون وأنتَ لا تدري، فلا تبتئس من حالِ عيشكَ إذا كان أولادُك يقرأون، تأكَّد أنَّ الموازين ستنقلبُ ذات يوم.
والقراءة جنَّة الدنيا، بها نعرفُ كيف نتجاوز الحَمقى، فنصمتُ إذا تكلّموا ونعتدلُ مع الحُلماء فنتكلَّم إذا صَمتوا. وهي صحَّة للعقلِ والجسم والنَّفس.
القراءة جنَّة الدنيا، بها نعرفُ كيف نتجاوز الحَمقى، فنصمتُ إذا تكلّموا ونعتدلُ مع الحُلماء فنتكلَّم إذا صَمتوا
لنُجرّب أنْ نقرأَ كتابًا واحدًا في الشهر، حسبَ ميولنا العلمية أو الأدبية، لا تقلْ لي لم تجدْ وقتًا، ساعدني واقسم ساعات الانعكاف بين الهاتف والكِتاب، حتّى ولو كان كتابًا يتحدّثُ عن كرة القدم ونجومها..
اقرأ/ي أيضًا: بين المؤلّف والنّاقد: هل على أحدهم أن يموت؟
وأنتِ يا سيدتي الأستاذة والطبّاخة والحَلوانية..
العُمر يتصرَّم غصبًا عنَّا ولا نقرأ.
لعلَّنا نتطلَّع إلى اللحظة التي يُقال لنا فيها "اقرأ كتابك.." ويا له من كتاب!
اقرأ/ي أيضًا: