في عام 1982، شاهد الفنان السوري ناصر حسين (1971) أوّل معرضٍ فنيّ في حياته. كان ذلك في حلب، بمناسبة افتتاح أخيه لـ"غاليري سومر". جاء المعرض ليقلب حياة الطفل ذي الحادية عشرة سنة، إذ إنّه لم يعد يرسم كالأطفال وحسب، إنّما راح يؤسّس الملامح الأولى لعالمه الفني الذي ستسكنه كائناتٌ وحيدةٌ مكسورةٌ، مثلها مثل ذلك الطفل الذي بدأت عزلته مع اكتشافه للفنّ.
تجسّد لوحات ناصر حسين قسوة النقصان في حياتنا، وتظلّ تلمّح إلى شيء ناقص، لا نعرف ما هو بالضبط لكنه قد يكون صديقًا، حبيبًا، مكانًا
لا تخرج أعماله الجديدة، المختلفة القياسات والمشغولة بالإكليريك على القماش، عن موضوعها الدائم: شخصيات حزينة ومحطمة تسبح في الفراغ لشدّة ما تعاني من العزلة.
اقرأ/ي أيضًا: معرض ناصر حسين.. شخصيات تتعرّف على نفسها
تجسّد اللوحات قسوة النقصان في حياتنا، وتظلّ تلمّح إلى شيء ناقص، لا نعرف ما هو بالضبط لكنه قد يكون صديقًا، حبيبًا، مكانًا... إلخ. نلمس ذلك في إيحاء الأعمال كلّها بالانتظار والترقّب. الكل ينتظرون. ثمة شيء سيحدث، أو أحدٌ سيأتي. شخصية تستند إلى جدار في انتظار شيء ما، لكننا لو دقّقنا قليلًا فلن نجد أنّ هناك جدرًا، إنما مجرد خلفية جامدة كأنها الحقيقة الوحيدة في هذا العالم.
هذه الحياة الناقصة نراها أيضًا في امرأة مستلقية على سريرها والذعر يأكل ملامحها. ربما تكون مذعورةً من وحدتها، أو من الهجران، أو من خسارة شخص ما في الحرب. لكننا قبل ذلك كله لسنا متأكدين أن هذه الشخصية امرأة، فالشخصيات هنا لا تعرّف نفسها من خلال نوعها، صحيح أن الملابس تعطي إشارات إلى النوع في بعض الأحيان، لكنّ الوجوه تصرّ على حيادها الجندريّ، وكأنها تقول إنها تحدّثنا عن الروح الإنسانية الجريحة، الروح التي بلا نوع.
يصنع الفراغ كيان اللوحة، غير أنه في الوقت نفسه ليس سطحًا ميتًا، فكثيرًا ما تشفُّ من أجزائه الألوان والأضواء، "لتكون احتمالًا لحياة ممكنة"، بحسب ناصر. وبسبب وصول العلاقة إلى نوع من التصوّف مع هذا الفراغ توقّف الفنان عن توقيع لوحته. لم يحدثْ ذلك دفعةً واحدةً، بل شعر أنّ التوقيع يصغر شيئًا فشيئًا بعد كل عمل، حتى بات الاستغناء عنه حتميًّا. "رغم هذا الفراغ كلّه لا أجد مكانًا لتوقيعي".
في برلين، حيث يعيش اليوم، يتذكّر حلب، الجزء الشرقيّ منها بشكل خاص، وهو الجزء الفقير والأكثر تضررًا في الحرب. مع ذلك لا يحمل من صور مدينته المُبادة إلا صورة البهجة. "الحياة هناك حفلة مستمرة" كما يصفها، قاصدًا الشهرة الواسعة التي حصدتها المدينة بموسيقاها وطعامها في أنحاء الشرق. البهجة التي صارت ذكرى هي كل ما يحمله من مدينته التي يوقن أنّه لن يعود إليها.
اقرأ/ي أيضًا:
رسام لم نرَ له لوحة واحدة.. خفايا وحقائق عن الشاعر الفنان الروسي ماياكوفسكي