لكي يتمكن المتابع من فهم دلالات نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي لا بد أولًا من الانطلاق من تاريخ هذه المؤسسة، والدور الذي تلعبه في الاتحاد الأوروبي.
ما هو البرلمان الأوروبي؟
هو المؤسسة الوحيدة ما بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي يتم اختيار أعضائها عن طريق الانتخاب، وهو يمتلك ثلاث سلطات تشريعية. يلعب البرلمان دورًا في إقرار ميزانية الاتحاد الأوروبي، كما أنه يلعب دورًا سياسيًا في منح الشرعية لرئيس وأعضاء المفوضية الأوروبية.
يلعب البرلمان الأوروبي دورًا في إقرار ميزانية الاتحاد الأوروبي، كما أنه يلعب دورًا سياسيًا في منح الشرعية لرئيس وأعضاء المفوضية الأوروبية
يعود تاريخ تأسيس البرلمان الأوروبي إلى اتفاقية باريس عام 1951 التي تأسست بموجبها (التجمع الأوروبي للفحم والصلب). النص الأصلي لهذه الاتفاقية لم يكن يحتوي أي شيء عن البرلمان الأوروبي، لكن تم اقتراح تأسيس مجلس يضم 78 عضوًا يمثّلون برلمانات الدول الموقعة على هذه الاتفاقية.
وفي عام 1957 تم التوقيع على اتفاقية روما، وفي هذه الاتفاقية تم تسميته بـ"مجلس البرلمان الأوروبي"، وتم إقرار اعتماد الانتخابات المباشرة لاختيار أعضاء المجلس، وفي 1962 أصبح اسمه "البرلمان الأوروبي"، وقد أجريت أول انتخابات عامة على مستوى الاتحاد الأوروبي عام 1979.
اقرأ/ي أيضًا: انتخابات البرلمان الأوروبي.. هل يهدم اليمين قصر بروكسل بأدوات بروكسل؟
في كل الأطوار السابقة، لم يكن للبرلمان الأوروبي سوى دور استشاري، ولم يلعب دورًا تشريعًيا سوى بعد اتفاقية ماستريخت عام 1997.
كيف يمارس البرلمان الأوروبي دوره في الاتحاد الأوروبي؟
يضع المجلس الأوروبي (الذي يضم رؤساء ورؤساء وزراء الاتحاد الأوروبي)، توصيات عامة ويقوم بإحالة هذه التوصيات إلى المفوضية الأوروبية التي تعتبر بمثابة الهيئة التنفيذية للاتحاد، تقوم المفوضية بصياغة القوانين والقرارات على ضوء التوجيهات العامة التي أقرها المجلس الأوروبي، ثم يقوم بإحالة هذه المشاريع إلى كل من البرلمان الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي.
هنا لا بد من التمييز ما بين المجلس الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي الذي يضم وزراء الدول الأعضاء حسب الاختصاص، مالية، بيئة، صحة.. إلخ. يتم هنا التوافق ما بين البرلمان مجلس الاتحاد الأوروبي على إقرار أو تعديل مشاريع القوانين، بالإضافة إلى هذا الدور التشريعي وبنفس الآلية يساهم البرلمان في إقرار ميزانية الاتحاد الأوروبي.
نستطيع أن نقدم الآن دلالات ونتائج الانتخابات الأخيرة، بدلالة النتائج في فرنسا، فالصورة الأوضح في تمزّق أصوات اليسار ما بين اليسار التقليدي ممثلّا بالحزب الاشتراكي الذي لم يحصل سوى على 6.6 % من الأصوات و حركة فرنسا تقاوم (جون لوك ميلانشون) ليحصل على نفس النتيجة 6.6 %و حركة أجيال والحزب الشيوعي ليحصل كل منهما على أقل من 5% لتكون المفاجئة عند حزب البيئة الذي حصل على 13،1 % ليحل في المرتبة الثالثة بعد التجمع الوطني (ماري لوبين 23.3 %) وحركة إلى الأمام (ماكرون 22.1 %)، فيما تراجع الحزب الجمهوري حتى 8.8% بعد أن كان قد حقق في الانتخابات الماضية 20.1%.
اليمين الشعبوي
إذا أخذنا نتائج الحزب الجمهوري والاشتراكي بعين الاعتبار، فإن هذا قد يعكس إلى حد ما سأم الشارع الفرنسي من الطبقة السياسية التقليدية، بالتالي يتمثل تأثير هذه النتائج على أداء الاتحاد الأوروبي بارتفاع قدرة اليمين الشعبوي المناهض للاتحاد نفسه على عرقلة القرارات التي يتم اقتراحها من قبل المفوضية الأوروبية، وبالتالي فترة من التعطيل لمؤسسات الاتحاد إذا لم تستطع بقية القوى المُمثّلة في البرلمان من تشكيل تحالف في مواجهة كتلة اليمين الشعبوي.
ولكن ذلك قد يسقط ورقة التوت عن هذه القوى اليمينية التي تتذرع بالاتحاد الأوروبي كسبب للأزمات التي تعصف بالقارة كاملة، نتيجة الحد من تأثير قرارات الاتحاد الأوروبي على المستوى الوطني.
وهنا لا بد أن يطرح السؤال لماذا تحقق الأحزاب اليمينية الشعبوية هذا الحضور المتماسك وهذه النتائج الملفتة؟ وبالمقابل لماذا نلحظ هذا التشتت وهذه النتائج الضعيفة؟
تبدو الإجابة الأكثر رواجًا في الآونة الأخيرة هي أن السبب يعود إلى ما يسمى "أزمة المهاجرين"، لكن لقراءة هذه النتائج لا بد من وضعها في سياقها التاريخي، فمما لا شك فيه أن العالم اليوم لا يزال يرزح تحت تأثير الأزمة المالية للعام 2008، ونحن اليوم نشهد ذلك الصراع ما بين أمريكا والصين، أي بقول آخر إننا نعيش اليوم نتائج العولمة بشكل أكثر وضوحًا وأكثر عنفًا، هذا الواقع الذي سمح للأحزاب والتيارات اليمينية الشعبوية أن تستثير المشاعر الوطنية بدلالتها الفاشية لدى جمهور الطبقة الوسطى الأوروبية الخائفة على وظيفتها ومستوى دخلها، وبالتالي فإن مشاعر الخوف الذي استطاعت هذه القوى استثماره على نطاق واسع، كما رأينا في حالة التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو أحد العوامل الرئيسية التي سمحت لها بتحقيق هذه النتائج، ليقابلها من الطرف الآخر تشتت في قوى اليسار والذي تبنى هو أيضًا خطابًا، لا يقل سطحية وشعبوية من خطاب اليمين، وعدم تقديمه أي حلول ناجعة من أجل معالجة معضلة التفاوت ما بين التطور الاقتصادي الذي حققته العولمة ومستوى حقوق الإنسان.
لأننا نعيش نتائج العولمة بشكل أكثر وضوحًا وأكثر عنفًا، سمح هذا الواقع للتيارات اليمينية الشعبوية أن تستثير المشاعر الوطنية بدلالتها الفاشية
اقرأ/ي أيضًا: حصاد انتخابات البرلمان الأوروبي: ماذا تغير على القارة العجوز؟
هذا الواقع يحتم على قوى اليسار في أوروبا وفي العالم، تغيير بؤرة النظر نحو الواقع الحالي، والتخلي عن ذلك الخطاب الاختزالي المسطح لواقع البشرية اليوم، واعتبار أن اللحظة الراهنة هي اللحظة المناسبة للنظر بأن الإشكاليات والتحديات التي تعاني منها شعوب العالم اليوم هي واحدة، مما يفتح الباب نحو تحمل المسؤولية التاريخية لمواجهة الواقع الحالي، مع الاعتراف بأن العالم يصبح أكثر فأكثر قرية صغيرة لكنها تتألم.
اقرأ/ي أيضًا: