كان عندي صديقٌ لطيف يُشاركني اهتمامي بتجارب التحوّل الديمقراطي التي بدأتها ثورات الربيع العربي، كنتُ أدخلُ مع هذا الصديق في نقاشات مطوّلة حول تجربة تونس في مسار التحوّل الديمقراطي، وكنتُ أعبّر له عن شدة إعجابي بهذه التجربة وعن تطلّعي إليها باعتبارها نموذجًا يُثبتُ بأنّ العرب يصلحون للديمقراطية، كنتُ كلّما عبّرتُ أمامه عن حبّي الكبير تونس وتجربتها مستعيرة مقطع شِعري لمحمود درويش يقول فيه: "كيفَ نُشفى من حبّ تونس؟"، يردّ عليّ بفكاهة لطيفة: "خذي مضادات ضدّ حبّها".
اليوم أتأمّل أحوال انقلاب قيس سعيد على الدستور، عبر الإجراءات التي بدأها في 22 أيلول/ سبتمبر عام 2021 وقام فيها بتعليق معظم فصوله، وتولي السلطتين التشريعية والتنفيذية بنفسه، وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وتولي إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالنظام، ولم يكتفِ بذلك، بل أكمل إجراءات هذا الانقلاب في 25 تموز/يوليو من نفس العام، حيثُ قام بإقالة رئيس الحكومة، وتعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه.
محزنة هي المآلات التي وصَلت إليها تجربة تونس في التحوّل الديمقراطي في عودتها بعد عقد من الزمان اقتربت فيه من الديمقراطية إلى أزمنة الاستبداد الأولى
أفكّر في هذه الأحوال وما تبعها من أعمال تضييق ومحاولات لغلق المجال العام التونسي، عبر إيداع أكثر من مدون السجن على خلفية نشاطهم في وسائل التواصل الاجتماعي، ومنع فرق صحافية من العمل، وإغلاق مكاتب قنوات فضائية، وصولًا إلى الخبر المزلزل – قبل عدة أيام- المتعلّق بمصادرة كتاب ومنعه من التداول في معرض تونس الدولي للكتاب، لا لشيء سوى لأنّه ينتقد سعيد وسياساته.
وفِعلًا، أعتقد أنّ الخبر الأخير المتعلّق بمصادرة كتاب كمال الرياحي "فرنكشتاين تونس" من معرض تونس الدولي للكتاب، يأتي ليُشكّل صدمة وغصة حقيقية لكلّ المنشغلين بالشأن التونسي، فكارثية الخبر تكمن في ما يُثبته حول المآلات التي وصَلت إليها تجربة تونس في التحوّل الديمقراطي، ومن عودتها بعد عقد من الزمان اقتربت فيه من الديمقراطية إلى أبعد حدّ، إلى أزمنة الاستبداد الأولى، الذي يُصادر فيه الرأي وتُمنع فيه الكتب وتُحظر من التداول.
غصة تونس تأتي مما كانت تَعدنا به تجربتها الواعدة التي لَبثنا كشعوب عربية، نراقبها منذ تفجّر ثورتها، ولمدة عقدِ كامل، قبلَ انقلاب قيس سعيد المشؤوم، بقينا نتطلّع إليها باعتبارها النموذج الناجي الذي يَجبْ أن نأخذ به ونستلهمه، ونضعه أمام أعين كلّ المشكّكين من أصحاب نظريات مركزية الثقافة الأوروبية، الذين ينظرون إلينا كعرب نظرة دونية، ترى بأنّنا شعوب لا نستحقّ الديمقراطية ولسنا أهلًا لها.
كنتُ ولا زلتُ أكره النظرة التشاؤمية التي تَنظر إلى المآلات الانتكاسية التي وصلت إليها ثورات الربيع العربي في موجتها الأولى (تونس، مصر، البحرين، سوريا، ليبيا، اليمَن) وموجتها الثانية (الجزائر، السودان، لبنان، العراق)، باعتبارها آخر المآلات وخاتمتها، ناسية أو متناسية بأنّ الثورات التي بدأت في الميادين العربية هي عبارة عن موجات مستمرّة، تشتعل وتنطفئ، في سيرورة هي أبعد ما يكون عن السكونية والثبات، فمآل تونس هذا ليس هو آخر المآلات، وإلى أنْ تنبثق موجة ثورية جديدة تُعيد لتونس ألقها كنموذج وشرارة أولى، سأبقى أكتب لأعبّر كم أنّني أحبّها وأكره استبدادها.