بعدما شهدنا من الحروب ما يكفي لنتعلّم صرنا نعرف أي نوع من الناس هم المرشّحون للموت. ولأجل ذلك نستطيع القول إن الذين سيموتون في أوكرانيا الآن، بعدما دقّت ساعة الصفر، أو الذين ماتوا في انتفاضتها عام 2014، هم من ماتوا في سوريا، والذين هم بالأصل من ماتوا في العراق، الذي سبق أن رأى قتلاه في بقايا قتلى أفغانستان.. وهكذا، وهكذا حتى أول الحروب، بحيث يمكننا أن نرى الضحايا شخصًا واحدًا، رغم اختلاف اللغات والبلدان.
لا نمتلك صيغة لغوية تعبّر عن تضاعف الجريمة على الجسد ذاته، ولا نمتلك صيغة رياضية توضّح برمز أو رقم أنّ الضحيةَ ضحيةٌ أكثر من مرة
ما من حاجة إلى تعريف الضحية، لأنها معرَّفةٌ بدمها وعذابها، وبالقسوة العاتية التي وقعت عليها.
اقرأ/ي أيضًا: تفوّق الضحايا وبراءة الجلادين
تبدأ الجريمة دومًا على شكل حرب يشنّها سفّاح بسبب أو بلا، لكنها تجري في مرحلتين متتاليتين، الأولى تحدث بفعل القتل العلنيّ الذي تقوم به القوات النظامية أو المليشيات التابعة لها، أو المتمردة عليها، والثانية عبر إعلام القتلة وأبواقهم ومريديهم حين يواصلون قتل القتلى بسادية خطابيّة.
ولشدَّ ما يؤلم أننا لا نمتلك صيغة لغوية تعبّر عن تضاعف الجريمة على الجسد ذاته، ولا نمتلك صيغة رياضية توضّح برمز أو رقم أنّ الضحيةَ ضحيةٌ أكثر من مرة، وأنَّ الموت الأخير الذي يصيبها نتاج ميتاتٍ مكرّرة.
مع كلّ وضوح عذابها لا تزال الضحية مجهولة. إنها مجرد فكرة غائمة. كأنّ صورتها صورة الشخص المغطى في سجن أبي غريب وأسلاك كهربائية متصلة بجسمه. نحن نعرف ما الذي يحدث له، لكن تغطية وجهه هي تغطية لعيوننا، ولأننا لا نراه لا نشعر به كما ينبغي للشعور الانفجاريّ أن يأتي.
لعبت صور الضحايا أدوارًا هامةً على صعيد صناعة الرأي العام، وأدت دورها في تحشيد الأصوات المناصرة للذين تعرضوا للكارثة. ولعل واحدة من أهم وأبلغ صور عصرنا هي صورة الطفل السوري إيلان ممددًا على الشاطئ التركي بلا حراك. صحيح أننا لم نكن بحاجة إليها كي تشرح أية لعنة تكمن في عبور البحر، لكنها فعلت ما لم تفعله تقارير المنظمات الدولية، أو نداءات النشطاء، أو حتى شهادات الناجين من براثن البحر.
إلا أن مشكلة الصور الإعلامية للضحايا، على الرغم من تمتعها بقوة عدم الدحض، أنها تُوظَّف في سياقات تسيء إلى الضحية، مرة حين تجعلها موسمية. فمع كل حرب توجد ضحية جديدة نفاجأ بنزيفها وأشلائها، وكأنّ ضحية الموسم الفائت لم تكف لتكون درسًا. ويساء إلى الضحية مرةً أخرى حين تختصر في كونها صورة. لا شك أن البعيدين عن الحدث يحتاجون إلى شخص واحد، ضحية ببعد رمزيّ، تشعرهم أنها قريبة منهم إلى الحد الذي يستطيعون تشبيهها بابنة أو ابن، بأخت أو أخ.
في سوريا ظهرت حالة يمكن تسميته "نرجسية الضحية"، حيث راحت الضحية السورية ترى نفسها فوق سواها
يعيش عصرنا ويتغذى على الصور، ولأجل ذلك عليه أن يمد بعمر الصور لأيام، لساعات، عبر تأجيج الاهتمام بها، وإلا فإنها ستموت فورًا، ولهذا تلعب السياسات الإعلامية على إبراز ضحية على حساب أخرى. ولنا أن نتذكر أنّ كل ما حدث ويحدث في اليمن لم يصبح محل اهتمام إعلامي على المستوى الدولي.
اقرأ/ي أيضًا: هل تشبه الحرب السورية..الحرب الأهلية الإسبانية؟
في نشرات الأخبار، نسمع صراخ الذين يتعرضون للقصف يعلنون أن النساء والأطفال يموتون. أن كبار السن بلا دواء. ونشعر من عدم ذكرهم للرجال أنهم ليسوا ضحايا. أو أنهم ضحايا لا تستحق الذكر. أو ضحايا لا جدوى منها في الدعاية على الأقل. من أجل هذا النمط من التفكير لن تكون هناك عدالة ما لم تكن الضحايا فوق الجندر والعمر والطبقة.
ساهمت الصور (سواء كانت للقتلى، أو المعتقلين المقتولين تحت التعذيب في السجون، أو للاجئين) في تشكيل إدانة حية لمن فتكوا بهم. حدث هذا في كل مكان. لكنه في سوريا تحوّل إلى نوع يمكن تسميته "نرجسية الضحية"، حيث راحت الضحية السورية ترى نفسها فوق سواها، لأنّ المقتلة تزامنت مع بركان صور عالمي. هكذا رأوا موت الجميع، ليس عبر نشرات أخبار مفلترة، أو صحف تروي ما حدث في اليوم التالي في تقارير بادرة، بل شاهد كلٌّ منهم الموتَ ساخنًا لحظة وقوعه عبر موبايله. إلا أن ضخَّ الصور في نطاقات محددة، في اتجاه واحد فقط، هو اتجاه نحن (تشير هذه النحن حصرًا إلى مكان أو جماعة)، جعل السوريين يرون مأساتهم فوق مآسي المدن والمناطق الأخرى.
ولأن الجماعة الأهلية ترى نفسها ضحية ضمن ضحايا انتماء محدد، قومي أو طائفي، فهذا يعني ضمنًا نزع صفة الضحية عن الآخرين. أي انتزاع صفة الإنسان المظلوم، وقبول الجرائم المرتكبة بحقهم، وبهذا ثمة ما يوحي إن الجميع يقول: ضحيتي تأكيد على حقي، وضحية الآخر تأكيد على ضعفه.
بذلك تنخسف هالة الظلم المحيطة بالضحية، وتنتقل من موقع إلى شديد العسف، فنمضي مع الانتقال من ضحية إلى أضحية، من التعاطف إلى التشفّي، في مؤامرة لغوية تهوي بالفكرة السامية إلى مستوى تتساوق فيه مع مفهوم القوة. وبذلك أيضًا تغدو الجريمة جريمةً إذا وقعت علينا، ولا شأن لنا بها ما دامت تحدث للغير.
غدت الضحية مناسبةً لتقسيم الجماعة بدلًا من جمع شملها. مجزرة لفئة ما تفرض حزنًا فئويًا على الأجواء، لكن تضامنًا خجولًا يهبّ من فئة أخرى من بعض المنافذ. ربما يأتي متردّدًا، أو متحفظًا. والعكس صحيح طبعًا. وربما تسبّب مجزرة طائفية مناحة للطائفة المنكوبة، لأن بطاقات التضامن التي تصل لا تتحول إلى فعل ملموس على صعيد تحقيق العدالة، من خلال السعي لمحاكمة القتلة، أو فضحهم على الأقل، بل تكتفي بالمستوى البسيط من تسجيل الحضور.
على هذا لدينا ضحية تقسّم الضحايا. وضحية تتوعّد الضحايا. محمود درويش كتب المشهد بمرارته:
"أرى فيما أرى دُوَلًا تُوَزَّعُ كالهدايا
وأرى السبايا في حروب السبي تفترس السبايا".
في الخلف، وراء المشهد، ثمة سفّاحون يستمتعون بعد الجريمة بصراع الضحايا.
من أجل النمط التمييزي في التفكير لن تكون هناك عدالة ما لم تكن الضحايا فوق الجندر والعمر والطبقة
اقرأ/ي أيضًا: اقتلوا الطاغية الذي نحيا بفضله!
كل ما تحمله الضحية في داخلها أنها درس يعلّمنا أن نكترث ونبالي بالآخر. فالناس الذين لا يبالون بالحيوانات التي تموت من حولهم يحزنون حين يصيب الضررُ حيواناتهم، والذين لا يبالون بالإضرار بالبيئة لا يشعرون بالخطر إلا حين يصيب التلوث مياههم وهواءهم؛ هؤلاء كلهم لا يوجد من يعلّمهم أفضل من الموت. وحين ترى أن الدرس فعل فعله فيهم وأنهم فهموه تمامًا سيموتون. ذلك جزء أساسي من عبث الحياة، التي تأتي لنا بأجيال جديدة فتشعل حروبًا أخرى، وكأن كلّ العِبر المكتوبة بالدماء والأشلاء مجرد ثرثرات.
اقرأ/ي أيضًا: