إحدى أكبر مشكلات الثقافة العربية الحديثة، خاصة تلك التي انتشرت وترسخت بعد استقلال الدول العربية، أنها بقيت تدور في فلك الكتب والأفكار بعيدة كل البعد عن مجتمعاتها وحركة شعوبها، الأمر الذي جعلها نخبوية متعالية.
في سوريا بقينا طويلًا ننعت شعبنا بالرعاعية والتخلف والهمجية، ولولا الثورة كنا بقينا، ربما، على تلك الآراء!
وكان تبريرها لعدم الانخراط في مجتمعاتها أن هذه المجتمعات متخلفة، جاهلة، ورعاعيه... وعندما لم تجد متلقيًا ومنفعلًا بالأفكار التي طرحتها اتهمت شعوبها بأنها أمية، لا تقرأ، ولا تفكر... ونحن نتذكر الإحصائيات المزيفة الكثيرة التي نشرتها الثقافة العربية، خاصة في العقدين الأخيرين من القرن الفائت، والتي تنتهي إلى أرقام مخجلة حول نسبة القراءة لدى الشعوب العربية وشعوب المنطقة قياسًا إلى تلك النسبة لدى الشعوب الأوربية والأمريكية.
اقرأ/ي أيضًا: ذباب حول العمائم
وقد وجدت هذه الأفكار والإحصائيات طريقة ذهبية لشيوعها وانتشارها تتمثل في وسائل إعلام الأنظمة العربية ذاتها. حدث أن تكامل الخطاب السياسي لهذه الأنظمة مع الخطاب الثقافي لكتاب ومفكري العرب والمنطقة في غالبيتهم. بالبحث عن أسباب ذلك التكامل نجد أن كل نظام سياسي بحاجة، لكي يستمر وينال الشرعية، لنظام ثقافي موازِ، وقد وجد كلا النظامين السياسي والثقافي العربي مشتركات كبيرة جدًا في خطابهما، هذه المشتركات تتمثل في الكثير من الآراء الجوهرية التي يقوم عليها، أصلًا، النظام السياسي. فقد وجد النظام السياسي السوري، كمثال، في الأفكار التي تبناها ونشرها النظام الثقافي ضالته، وهي أفكار التحرر ومواجهة الإمبريالية والصهيونية في الخارج وعملائهما في الداخل وبعث العرب وغير ذلك... وكسوريين نعرف أن الأفكار التي لطالما رددها نظام الأسد على مدار الساعة منذ خمسين عامًا هي ذاتها أفكار الثقافة الحديثة في المنطقة. بذريعة هذه الأفكار تم قمع الناس وإذاقتهم الويلات وإخراسهم وإبعادهم عن الشؤون العامة وسجنهم وقتلهم... وكان التبرير الثقافي لذلك هو مقولة أن الناس جهلة ورعاعيون ومتخلفون ولا تليق بهم الحرية ولا الديمقراطية ولا شيء، وبذلك وجد النظام الاستبدادي ذريعة ثقافية كبيرة أطلقها مفكرون وكتاب ومثقفون بحق هذا الشعب الجدير بالقمع فقط حسب طروحاتهم. نعرف ونتذكر أننا في سوريا بقينا طويلًا ننعت شعبنا بالرعاعية والتخلف والهمجية، ولولا الثورة كنا بقينا، ربما، على تلك الآراء!
وبهذا، فإن النظام السياسي العربي والنظام الثقافي العربي تبادلا خلق بعضهما بعضًا، كما تبادلا الفائدة: كلا النظامين تأسس على التأبيد فلا يتغير ولا يتبدل، ويواصل إنتاج الأفكار والوضعيات التي تحقق له شروط بقائه على العرش مهما حدث في هذا العالم، وكلاهما منح الآخر كافة الطرائق والوسائل التي تبقيه مهيمنًا، وكلاهما أمعن في طغيانه، فقد أخذ السياسي من الثقافي جميع الأفكار التي تبرر طغيانه، ونال الثقافي حرية خلق طغاة صغار في الشعر خاصة وفي الثقافة عامة كلما وجد ضرورة لذلك! فطغيان النظام السياسي يلزمه طغيان النظام الثقافي، فكلاهما صنيعة بعضهما بعضًا.
عندما ثبّتت الأنظمة السياسية نفسها في السلطة جيدًا، وتكشّفت عن دكتاتورية وشمولية غير مسبوقتين، وجد أولئك المثقفون أنفسهم أمام معضلة أخلاقية، إن لم يكن سياسية، وكان لا بد لهم من الإعلان عن موقف من ذلك، وعلى اعتبار أنهم يشكلون المنظومة الثقافية لهذه الأنظمة، وعلى اعتبار أن الثقة متوفرة بين النظامين اللذين هما قفا الورقة ووجهها، كان أن أعلن الكثير من هؤلاء عن موقفهم المعارض لهذه الأنظمة ظاهريًا وشكلانيًا فقط.. لكنْ حدث أن بطشت الأنظمة السياسية بمعارضيها الآخرين: سجنًا ونفيًا وتشريدًا وقتلًا.. فيما أبقت على هؤلاء الشعراء والفنانين والكتاب الحداثيين كواجهة معارضة لا تفعل أي شيء، أي شيء يسيء لنظامها السياسي، بل على العكس، لم تنفك تؤازره في ادعاءاته تحرير الأراضي المحتلة، ومواجهة المشاريع الخارجية والداخلية الهادفة إلى القضاء على بذور المقاومة!
لعل موقف بعض المثقفين الرافض للثورة هو موقف دفاعي عن نتاجهم الثقافي أصلًا
أتى زمن الثورات وهدّد بانهيار النظام السياسي الذي يعني بدوره انهيار النظام الثقافي، فانكشف الأمر على نحو صفيق، حيث وقف الكثير من أولئك المثقفين ضدها، وساندوا ذلك النظام: رديفهم في الطغيان.
اقرأ/ي أيضًا: الإنسان بين الحرية والتكليف: أصل الانفصام
نستطيع أن نلاحظ أنه خلال الثورة السورية، وعبر الكثير من المقالات والشفويات وما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي، تعرض المثقفون العرب، ومثقفو المنطقة، السوريين خصوصًا، لحملة رفض وتشهير وتشكيك وانعدام ثقة وسخرية شديدة القوة وغير مسبوقة أطلقها مناصرو الثورة. التشكيك، لا بقيمتهم الثقافية فحسب، بل بوجود "ثقافة" صنعوها أو شاركوا بصنعها أصلًا! كان المبرر الأكثر قوة لتلك الحملة هو موقف بعض المثقفين من ثورة السوريين. وهذا سببٌ أعتقد، شخصيًا، أنه كاف للقيام بمراجعة نتاجهم الثقافي والبحث عن الأنساق المضمرة التي قادتهم إلى تلك المواقف اللاأخلاقية والمنحطة، دون أن نغفل عن عمومية الحملة وتعميمها الظالمين، إذ نعرف أن ثمة الكثير من المثقفين انخرطوا بالثورة منذ قيامها، وثمة من اعتقل وتشرد واستشهد في مظاهرات أو تحت التعذيب في سجون النظام، ناهيك عن الكثير من الكتابات والفعاليات التي قام بها مثقفون لأجل ثورة شعبهم… هذا الأمر يجعنا نفكر أن البعد الحقيقي والأكثر قربًا من الواقع لهذه الحملة يكمن في رفض تلك الثقافة التي أنتجت ذلك النظام، ورفض البنية الثقافية والاجتماعية التي بقيت أكثر من نصف قرن تنتجه وتعيد إنتاجه بلا هوادة. ولعل موقف بعض المثقفين الرافض للثورة هو موقف دفاعي عن نتاجهم الثقافي أصلًا، إذ أدركوا أن الثورة هي رفض للثقافة التي أنتجوها وللبنية التي تأسسوا فيها وأسسوها، وإن اتخاذ أي موقف متعاطف أو داعم للثورة يتطلب منهم جرأة لا تستطيع ثقافتهم هذه أن تتيحها لأنها ثقافة ثوابت وقرارات نهائية وحسم، إنها ثقافة بلا تشكك ولا سؤال.
اقرأ/ي أيضًا: