عدا عن الحادي عشر من شباط/ فبراير عام 1979، تاريخ نهاية الحكم الملكي البهلوي وقيام الجمهورية الإسلامية، هناك تاريخٌ آخر غيَّر وجه إيران، وأفرز صورتها الحالية القائمة منذ نحو ثلاثة عقود. ففي السادس والعشرين من آذار/ مارس عام 1989، وبعد نحو عشر سنواتٍ على سقوط محمد رضا بهلوي، أبلغ الإمام الخميني تلميذهُ ونائبهُ حسين علي منتظري، قراره المفاجئ بعزله من منصبه في رسالةٍ افتَتحها بقوله: "أخاطبك بفؤادٍ دامٍ وقلبٍ محطم".
يعترف علي حسين منتظري في نهاية الحوار، بأن أحد أهم أخطائه وأخطاء النظام الإيراني هو عدم الاعتناء بمسألتي الحقوق والحريات
وأضاف مبيِّنًا أسباب العزل: "اتضح تمامًا أنكم ستُسلِّمون من بعدي البلاد والثورة الإسلامية العزيزة والشعب الإيراني إلى أيدي الليبراليين، وعن طريقهم إلى المنافقين (مجاهدي خلق)، لذا فقدتم أهلية قيادة النظام في المستقبل ومشروعيته". ليرد عليه منتظري برسالةٍ أبلغه فيها باستقالته من منصبه بصفته نائبًا وخليفةً له. ويفسِح بذلك، ودون أن يعلم، الطريق للمرشد الجديد علي خامنئي، الذي رسم لإيران مسارًا يختلف تمامًا عما رسمه منتظري في مخيلته.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "آيات الله والديمقراطية في العراق".. هل بدأ عصر التنوير الإسلامي؟!
حسمت رسالة الخميني، الصراع الذي كان قائمًا آنذاك بين تيار منتظري، والتيار الذي ينتمي إليه خامنئي، لصالح الأخير. وأسّست واقعًا جديدًا كان منتظري والمقربين منه من بين ضحاياه، إذ وُضع بعد وصول خامنئي إلى السلطة تحت الإقامة الجبرية، ومُنع من التدريس، وتعرض لحملة تشويهٍ منظمة في وسائل الإعلام التابعة للدولة، إلى جانب منابر الحسينيات التي وظفها خامنئي ضده.
هذه الحادثة وغيرها من الأحداث التي شهدتها إيران بعد عام 1979، وانتهت بانفراد تيار معين بالحكم، هي موضوع كتاب "نقد الذات" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ ترجمة فاطمة الصمادي، 2020)، الذي يضم حوارًا بين حسين علي منتظري وابنه سعيد منتظري، حول مسائل اجتماعية وسياسية مختلفة، لا تزال مثار جدلٍ وأخذٍ ورد في الساحة السياسية الإيرانية حتى هذه اللحظة.
وتأتي أهمية الكتاب من كونه يضم تفاصيل دقيقة لعملية صناعة القرار في إيران زمن الخميني، إلى جانب الصراعات المختلفة التي دارت بين تيارات وأجنحة المنظومة الحاكمة، بالإضافة إلى طبيعة وشكل الواقع الحقوقي والإنساني في البلاد، تُروى جميعها على لسان شخصٍ كان شاهدًا عليها ومطَّلعًا على ما خفي منها، بحكم المنصب الذي شغله نائبًا للخميني، وخليفةً له، قبل عزله نهاية ثمانينيات القرن الفائت.
المشروعية الحاكمية الإسلامية وولاية الفقيه
واحدة من الأفكار الجدلية التي طرحها حسين علي منتظري، هي تلك التي تقول بأن مشروعية الولاية والحاكمية الإسلامية، يجب أن تكون، عندما يتعلق الأمر بغير الرسول والأئمة، مستمدة من رأي الناس وبيعتهم ومدى حاجتهم لها أيضًا. وهو بذلك، وبشكلٍ غير مباشر، ينزع الشرعية عن ولاية المرشد الحالي علي خامنئي.
يقول منتظري إن من تولى زمام الحكم بعد وفاة الخميني قد سار على خطى "السافاك" في التعذيب والترهيب والممارسات الوحشية
ويُعارض منتظري ما يُعرف بـ "ولاية الفقيه المطلقة"، التي تجعل المرشد فوق المحاسبة والرقابة. ويميل نحو اعتماد الانتخابات في تعيين شكل الحكومة وصلاحيات المرشد ومدة توليه الحكم، على أساس ميثاقٍ يعقده الشعب مع الحاكم، ويكون للناس فيه حرية تضييق صلاحياته أو توسيعها بشكلٍ يضمن حقوقهم الأساسية، ويتيح المحافظة عليها، إلى جانب تفعيل الرقابة على عمل الحاكم وسلوكه، وذلك بموازاة ضمان حرية تشكيل وعمل الأحزاب السياسية، بالإضافة إلى حرية المطابع ووسائل الإعلام.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "كيف تعمل الدكتاتوريات؟".. رسوخها وآليات عملها
الحرب العراقية – الإيرانية والعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية
اتخذ حسين علي منتظري موقفًا مؤيدًا للتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية وتسوية العلاقات معها، ولكنه كان رافضًا لملابسات زيارة المبعوث الأمريكي روبرت ماكفارلين إلى إيران، لأنها جرت دون إبلاغ السلطة التنفيذية والمؤسسات المعنية بهذه الأمور، مثل رئاسة الحكومة ووزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الدفاع الأعلى وغيره.
ويقول في حواره مع ابنه إنه رفض مواصلة الحرب مع العراق بعد استعادة مدينة خرمشهر، وحاول إقناع الخميني بوجهة نظهره، ولكن المحيطين به أقنعوه بضرورة مواصلتها، وهو ما فعلته الولايات المتحدة أيضًا من خلال صفقات بيع الأسلحة إلى الجيش الإيراني، وهي أسلحة لم يكن هدف واشنطن من بيعها مساعدة طهران في حسم الحرب لصالحها، وإنما إطالة أمدها فقط، بشكلٍ يضمن لها استنزاف إمكانيات البلدين معًا.
صراع الأجنحة والتيارات والتصفيات السياسية
الجزء الأهم مما جاء في حديث مؤلف "دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية"، هو حول الخلافات التي كانت قائمة بين أركان النظام الإيراني، وهيمنة فئة بعينها على مجمل قرارات الخميني، والاستفادة من علاقتها به لتوفير غطاءٍ شرعي لممارساتها التي سعت من خلالها إلى اقصاء وتهميش التيارات الأخرى، بحيث تضمن الانفراد بالحكم بعد وفاته.
ويؤكد منتظري أن الخلافات المذهبية والفقهية، لم تكن سوى ذريعة لتصفية الحسابات السياسية والقضاء على الخصوم، في ظل غياب أي دور فعال للمؤسسات القضائية التي همشتها وزارة الاستخبارات، صاحبة السجل الحقوقي القاتم، والجهة المسؤولة عن تنفيذ سلسلة عمليات الاغتيال التي طالت عددًا من الكتّاب والمثقفين الإيرانيين، الذين أُلصقت تهمة اغتيالهم، زورًا، بعدة أشخاصٍ اعترفوا بما لم يقوموا به تحت الترهيب والتعذيب.
ويرى أن الفريق الذي حصل على ثقة الخميني، وتولى زمام الحكم بعد وفاته، قد سار على خطى "السافاك" في التعذيب والترهيب والممارسات الوحشية، إذ يعترف بوجود سجونٍ كانت أقرب إلى مسالخ بشرية في عهد الخميني، بعيدًا عن المحاسبة والرقابة. بل ويرى أن: "من يتولى الشأن العام، في عقدي الثمانينيات والتسعينيات في إيران، سبق نظام الشاه والنظام الشيوعي في انتزاع الاعترافات المتلفزة في السجن وإراقة ماء وجوه الآخرين" (ص 95).
يؤكد منتظري أن الخلافات المذهبية والفقهية في إيران بعد الثورة لم تكن سوى ذريعة لتصفية الحسابات السياسية والقضاء على الخصوم
الخميني وخامنئي وعلاقته بهما
على عكس المتوقع، جاء أداء الخميني في التدبير وشؤون الحكم، وبحسب حسين علي منتظري، ضعيفًا يشوبه النقص، لا سيما بعد هيمنة المحيطين به على مجمل قراراته، خصوصًا المصيرية منها. أما خامنئي، فيقول إن علاقته به كانت جيدة أول الأمر، حيث اقترحه بنفسه على الخميني ليكون عضوًا في مجلس الثورة، وإمامًا للعاصمة طهران، قبل أن يسلك مسارًا مختلفًا بعد تحويله ميدان صلاة الجمعة في طهران، إلى منبرٍ للهجوم على بقية التيارات السياسية داخل المنظومة الحاكمة وخارجها.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الفقيه والسلطان".. من حاجة إسلامية للعلمنة إلى فشل التحول الديمقراطي
ويرى منتظري أن خامنئي لم يكن مؤهلًا للتصدي للولاية في النظام الإسلامي، بسبب عدم استيفائه الشروط المطلوبة لفعل ذلك، وهي الاجتهاد المطلق في الفقه والأعلمية الفقهية في المسائل المتعلقة بالحاكمية الإسلامية وغيرها. بل ويعتبر أن انتخابه عام 1989 قائدًا للجمهورية الإيرانية أمرٌ مخالفٌ للدستور الذي ينص على المرجعية كشرطٍ أساسي للتصدي للولاية، وهي المرجعية التي يرى أن خامنئي يفتقدها لكونه لا يملك الصلاحية العلمية والتقوى المطلوبة للتصدي لمسائل الافتاء، وهو بذلك يشكك أيضًا في صحة اعتباره "مرجعية" للشيعة الاثنا العشرية.
وإلى جانب ما سبق، يقول العالِم الإيراني إن خامنئي انفرد بالحكم، وتدخل في أمور الحوزة الدينية، وقضى على استقلالها، وربطها بحكومته، بالإضافة إلى احتكاره قرار عزله ومدة بقائه في المنصب، بعد أن أحال تعيين صلاحية أعضاء مجلس الخبراء إلى فقهاء مجلس صيانة الدستور، الذين كان يعينهم بنفسه، الأمر الذي يعتبره: "دورٌ باطل ويخدش مشروعيته في مرحلة بقائه على الأقل" (ص 131)، ذلك أنه حوَّل مجلس الخبراء من مؤسسة رقابية على أعماله وسلوك المؤسسات التابعة له، إلى أداةٍ شكلية تحت رقابته.
ويسهب منتظري في الحديث عن تجاوزات خامنئي للقانون، والتدخل في مرجعيات التشريع، والصدام المباشر مع المطبوعات المستقلة وتعطيلها، وقمع المعارضين وسجنهم، وعدم الاهتمام برأي الشعب، وإجراء انتخابات شكلية تُعرف نتائجها مسبقًا، إلى جانب التدخل في أمور الحوزات وخدش استقلالها العلمي. وأخيرًا، يتحدث عن وضعه تحت الإقامة الجبرية، واعتقال تلاميذه، وإعطاء الأوامر لتنفيذ حملاتٍ إعلامية الهدف منها تشويه صورته وإهانته.
نقد الذات ومكاشفة التجربة
يعترف علي حسين منتظري في نهاية الحوار، بأن أحد أهم أخطائه خصوصًا، وأخطاء النظام ككل عمومًا، هو عدم الاعتناء بحقوق الإنسان، بل واعتبار بعض المقولات بشأن الكرامة والحرية والحقوق الفردية، أفكارًا غربية بينما هي في الكثير من المسائل مأخوذة من الشرع الإسلامي. أما الخطأ الثاني، فهو عدم اهتمام العلماء الشيعة بأمور الحكم الإسلامي والفكر السياسي، على العكس تمامًا من أهل السنة الذين، وبحسب تعبيره، اختبروا في الفقه الكثير من الأبواب التي أغفلها الشيعة، لا سيما تلك المتعلقة بمعنى الحكومة الإسلامية وتعريفها.
يُعارض حسين علي منتظري ما يُعرف بـ "ولاية الفقيه المطلقة" التي تجعل المرشد فوق المحاسبة والمساءلة والرقابة أيضًا
ويضيف إلى ما سبق الانصراف عن بناء تصوراتٍ كافية لمرحلة ما بعد سقوط النظام الملكي، والتعجيل في تدوين الدستور والمصادقة عليه، وعدم سن قانونٍ يفصِّل طريقة تعديله، ومنح معظم الصلاحيات إلى المرشد، وجعل السلطة متمركزة في يده تقريبًا، دون التفكير في موضوع مساءلته والرقابة الفعلية والشعبية على أدائه، وإدراج مادة ولاية الفقيه المطلقة فيه. وأخيرًا، اقتحام السفارة الأمريكية عام 1979، وهو الحديث الذي يرى أنه لم يعد بالنفع على إيران، وأوجد حساسية ونظرة سلبية من الشعب الأمريكي والشعوب الأخرى تجاه الجمهورية.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "حكّام إفريقيّة وتونس".. بين ظلام السلطة وضيائها
أما الخطأ الأخير فهو عدم قبول النظام الإيراني الوساطة التي عرضها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في قضية تحرير الرهائن الأمريكيين، إذ يرى أنها لو قُبلت، لكان ذلك بمثابة انتصارٍ وامتيازٍ كبير للفلسطينيين أمام الرأي العام العالمي عمومًا، والأمريكي خصوصًا.
اقرأ/ي أيضًا:
كيف أعادت جائحة كوفيد-19 التفكير بأهمية الإنسانيات في العلوم الطبية؟