فتحت جائزة نوبل للآداب هذا العام السجال مجددًا بعد منحها للكاتب النمساوي بيتر هاندكه المؤيد لسلوبودان ميلوسيفيتش أحد أهم قادة التطهير العرقي في يوغسلافيا السابقة، مثيرًة العديد من الأسئلة حول السبب في اختيارها كاتبًا من طراز هاندكه مع صعود الخطاب اليميني المتطرف في العالم الذي أصبح "قرية صغيرة" بوجود الثورة التكنولوجية، وتزايد انتهاكات حقوق الإنسان في ظل العنصرية المتنامية أيضًا، لتبدو كما لو أنها تدعم التوجهات اليمينية في عالمنا المعاصر.
فتحت جائزة نوبل للآداب هذا العام السجال مجددًا بعد منحها للكاتب النمساوي بيتر هاندكه المؤيد لسلوبودان ميلوسيفيتش أحد أهم قادة التطهير العرقي في يوغسلافيا السابقة
وللمفارقة أكثر فإن هاندكه عينه كان له تصريح مثير للجدل حول نوبل للآداب عام 2014 عندما دعا لإلغائها لأنها "تقديس محرف للأدب"، لذلك فإن ما حصل "أثبت أنه كان على حق"، بحسب ما يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك في حديث لصحيفة الغارديان البريطانية، ويضيف معلقًا على ذلك بأن "هذه السويد اليوم.. يحصل مدافع عن جرائم الحرب على جائزة نوبل.. والبلاد تشارك في اغتيال جوليان أسانج البطل الحقيقي في عصرنا.. يجب أن تكون ردة فعلنا: جائزة نوبل للآداب ليست لهاندكه.. إنما جائزة نوبل للسلام لأسانج".
اقرأ/ي أيضًا: نوبل للآداب 2018 و2019.. من التحرّش الجنسي والاحتجاب إلى التحرش السياسي
فعليًا، لم تشفَ الجائزة بعد من فضيحة التحرش الجنسي التي طالت أعضائها العام الماضي، ما دفع بالقائمين عليها لإلغائها حينها، فقد كانت الفضيحة مدويًة في أروقة الثقافة العالمية، بعد توجيه 18 سيدة اتهامات مباشرة للمصور الفرنسي جان كلود أرونو بالتحرّش الجنسي والاعتداء الجسدي، وهو زوج الشاعرة والكاتبة وأحد الأعضاء السابقين في الأكاديمية السويدية كاتارينا فروستنسون، والمفاجئ أكثر في الاتهامات حينها حصول عدد منها داخل ممتلكات تابعة للأكاديمية.
خرجت الأكاديمية لحظتها على إثر الفضيحة المدوية لتعلن تأجيلها حتى العام الجاري لأنها "تحتاج وقتًا لاستعادة الثقة بنفسها" بحسب بيان رسمي صادر عنها، لكن ما حصل هذا العام حسب آراء عديدة أنها سقطت مرًة أخرى بمنحها الجائزة للنمساوي هاندكه، بالأخص أن الجائزة شابها على مرّ الزمن الكثير من الجدل بعدما منحت جوائزها لأسماء إشكالية مقابل تهميش عديد الأسماء المؤثرة في تاريخ الأدب العالمي أولًا، وانحيازها السياسي في منحها للجائزة ثانيًا.
في كتابها "سيمون دو بفوار وجان بول سارتر.. وجهًا لوجه" تسرد هازل رولي بعضًا مما دار من سجال حول جائزة نوبل في ستينات القرن الماضي، كان من بينها الكواليس التي رافقت منح الكاتب السوفييتي بوريس باسترناك الجائزة عام 1958 عن روايته "دكتور جيفاكو"، حيث بررت الأكاديمية في بيانها منحه الجائزة "لإنجازه الهام في كل من الشعر الغنائي المعاصر وفي مجال التقليد الملحمي الروسي العظيم"، لكن رولي تشير في كتابها إلى أن السبب الحقيقي وراء منح باسترناك الجائزة كان انتشار "دكتور جيفاكو" في الدول الغربية بعدما لاقت الرواية ترحيبًا كبيرًا بسبب انتقادها لفترة الحكم الشيوعي.
لكن اللافت أكثر من ذلك في قرارات الأكاديمية السويدية كان منحها الجائزة للفرنسي جان بول سارتر في عام 1964. تروي رولي كواليس ما حصل حينها عندما أشاعت صحيفة "الفيغارو ليتيرير" الفرنسية ترشيح سارتر للجائزة، وعلق الصحفي في الصحيفة على الخبر يومها بأن "ماضي سارتر السياسي، والمثير للجدل لم يلعب دورًا ضده"، لتكون بعدها المفارقة الأهم في تجاهل الأكاديمية الرسالة التي بعث بها سارتر يطلب منهم "لأسباب شخصية وموضوعية، ألا يدرجونه في عداد أولئك الذين سيقبلون الجائزة في حال منحت لهم، وأعلمهم أنه سيرفض قبول الجائزة في حال منحت له"، وفي خطابة الذي أرسله يرفض فيه استلام الجائزة أظهر سارتر انزعاجًا من منح نوبل للآداب لباسترناك قبل ميخائيل شولوخوف المعروف بميوله الستالينية، ويبدو أن المؤسسة رضخت لرسالة سارتر بمنحها الجائزة لشولوخوف عام 1965، أي بعد عام من رسالة سارتر الرافضة لها.
مواقف سارتر السياسية المثيرة للجدل فعلًا ظهرت بتجنبه الحديث عمّا يحصل داخل الاتحاد السوفييتي، مما دفع بالمثقفين السوفييت للشعور بخيبة أمل من سارتر، بحسب ما تقول زولي، التي تنقل في كتابها عن الملحق الثقافي في السفارة الفرنسية في موسكو جيلبير داغرون قوله: "لقد وجدوه (المثقفون السوفييت) ساذجًا بل غشاشًا، فقد رأى الأمور، لكنه لم يقل شيئًا"، إذ كان المثقفون السوفييت ينتظرون من سارتر أن يستغل فرصة فوزه بالجائزة للتعبير عن رأيه بحرية بدلًا من تملق الشيوعيين.
أعادت الأكاديمية السجال مرًة أخرى بمنحها الجائزة للكاتب الإسرائيلي يوسف عجنون في عام 1966، وكان قد ترشح قبلها لأربعة أعوام هي 1947، 1949، 1951، و1965، إذ أظهرت الوثائق الأرشيفية للأكاديمية السويدية بعد مضي 50 عامًا عليها – أي بعد السماح بنشرها – أن الجائزة منحت لعجنون حينها بسبب الزخم الذي اكتسبه بعد وقوع الهولوكوست في أوروبا، والدعم الذي لقيه من الحكومة الإسرائيلية للحصول على هذه الجائزة بعد ممارستها ضغوطًا على اللجنة، ومن المعروف أن الجائزة منحت في ذلك العام مناصفة بين عجنون والكاتبة اليهودية السويدية نللي زاكس.
الأكاديمية قالت في بيانها إن منحها الجائزة لعجنون بسبب "فنه السردي المميز بزخارف من حياة الشعب اليهودي"، أما لزاكس فكان "لكتابتها الغنائية والدرامية الرائعة، والتي تفسر مصير إسرائيل بالقوة المؤثرة"، إلا أن الوثائق الأرشيفية لا تنسجم مع بيان الأكاديمية الرسمي، فقد كشفت الوثائق أن عضو الأكاديمية بير هلستروم كتب شهادة في أعمال عجنون عام 1948، قائلًا إن الرجل لا يستحق الجائزة كونه يكتب في أعماله كافة عن حياة دينية منغلقة، ويبذل كل ما لديه من ملكة أدبية كي يمنحها تأويلًا يتجاوز ما هي عليه حقًّا، والأهم من ذلك أنه لا يترك أي بصمة فنية متميزة.
الأكثر إثارة من ذلك أن الأكاديمية التي عملت طوال سنينها على تجاهل أهم الكتاب بغرض تسييس الجائزة، فاجئت الصحفيين بمنحها نوبل للآداب للموسيقي الأمريكي وأحد المؤيدين للحكومة الإسرائيلية بوب ديلان في عام 2016، يومها قالت الأكاديمية إنها منحته الجائزة "لأنه خلق تعبيرات شعرية جديدة في تقليد الأغنية الأمريكية العظيمة". وقد ارتأت الأكاديمية حينها تفضيل الموسيقي الأمريكي على أسماء بارزة في الأدب العالمي كانت مرشحة في ذلك العام للجائزة من بينها الكاتب الهندي/البريطاني سلمان رشدي، والروائي الكيني نغوجي وا ثيونغو، ما عرضها لموجة من الانتقادات، واتهامها بالتقليل من أهمية الإنتاج الأدبي سواء كان شعريًا أو سرديًا.
خلال ذلك العام حبست الأكاديمية أنفاسها لأكثر من ثلاثة أشهر خوفًا من رفض ديلان للجائزة، لكنه في النهاية أرسل نسخة مسجلة من كلمته للأكاديمية في أيار/مايو عام 2017، لتتفجر بعدها مفاجأة ثانية كشفتها صحيفة ديلي تلغراف في تقرير أعدته هارييت ألكسندر، فالمحاضرة التي أرسلها ديلان تضمنت اقتباسات من ثلاثة كتب هي: "الأوديسة" لهوميروس، "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" لإريك ماريا ريمارك، والرواية المصنفة من ضمن كلاسيكيات الأدب العالمي "موبي ديك" لهيرمن ميلفيل، ويومها وصفت الأمينة العامة السابقة للأكاديمية سارة دانيوس الخطاب بأنه "جميل ومتكامل بلاغيًا".
اقرأ/ي أيضًا: "حمى" التحرش الجنسي تضرب في الأكاديمية السويدية.. نوبل للأدب عرضة للتأجيل
لكن ألكسندر فجّرت في تقريرها مفاجأة تؤكد أن الأكاديمية أخطأت بتقديمها أحد الموسيقيين على حساب كتاب الأدب الأصليين، إذ إنه بحسب ما ذكرت أثيرت الشكوك حول المقاطع التي اقتبسها ديلان من رواية موبي ديك، بعدما ظهر أنها سرقت من موقع سبارك نوتس الإلكتروني، الذي أنشأه طلبة في جامعة هارفارد الأمريكية لمساعدة الطلاب على المراجعة، كما أن الاقتباسات التي نسبها ديلان لميلفيل غير موجودة في الرواية، إنما هي ملخصات كُتاب سبارك نوتس، كما أن الصحفيين عثروا على 20 جملة أخرى في خطاب ديلان اقتبست من الكتاب المدرسي.
فيما يحاول العالم مقاومة الخطاب اليميني المتطرف، وموجات العنصرية والقومية المتصاعدة تمنح "نوبل للآداب" لكاتب دافع عن حملة التطهير العرقي في يوغسلافيا السابقة
الآن، وبعد كل هذه السقطات في تاريخ الأكاديمية السويدية لم يعد نافعًا النظر بإعادة هيكلتها، فهي في الوقت الذي كان العالم يحاول مقاومة التحرش الجنسي ورُهاب المثلية، فضحت نفسها من داخل أروقتها، واليوم فيما يحاول العالم مقاومة الخطاب اليميني المتطرف، وموجات العنصرية والقومية المتصاعدة تمنح الجائزة لكاتب دافع عن حملة التطهير العرقي في يوغسلافيا السابقة، ما سيعزز من الانقسامات التي يشهدها عالمنا المعاصر، ويُظهرها أنها غير معنية بما يحصل من انهيارات فكرية في العالم بدلًا من الدفاع عن القيم، والوقوف في وجه فوضى العنصرية التي تدفع بالعالم نحو الهاوية، فحصول هاندكه على الجائزة في النهاية جلب عليها عارًا لا يمحى.
اقرأ/ي أيضًا: