خلال السنوات السبع الأخيرة لعب الحيز الدعائي الإعلاني/ الإشهاري على مداخل المدن الفلسطينية دورًا كبيرًا في قلب أولويات المجتمع الفلسطيني عامة وفئة الشباب خاصة، وهو جزء من الحيز العام الذي جرت محاولات حثيثة لإعادة هندسته بما يلائم الوضع الفلسطيني الجديد مثل: الضواحي الجديدة والمدن المغلقة على أطراف المدن الفلسطينية... إلخ.
أريد للإعلانات التجارية أن تساهم في إعادة بناء الحالة الفلسطينية من حالة نضالية مقاومة إلى حالة استهلاكية رغباتية
كان ذلك جزءًا من محاولة بناء "الفلسطيني الجديد"، ولو من باب السياسات الاقتصادية الرأسمالية والنيوليبرالية التي كان على رأسها "موظف" البنك الدولي سابقًا سلام فياض، حيث كرس سياسة اقتصادية قائمة على الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك. أفضى ذلك أن أصبحت الديون المترتبة على إشباع الحاجات المتزايدة وغير الأساسية للمواطن الفلسطيني تثقل كاهل قطاعات عريضة من المجتمع الفلسطيني. الحيز الإعلاني لعب دورًا محوريًا في هذه السياسة، ورغم ما يعانيه هذا القطاع من سوء في التنظيم والإدارة - حيث يمكن وضع أي مادة إعلانية في أي مكان طالما يمكن للجهة أن تدفع ليتربع الإعلان على المكان وبالمساحة وبمختلف طرائق الجذب - إلا إن المنافسة الحادة استعرت بين كبريات الشركات الفلسطينية الاستهلاكية للسيطرة على الأماكن المميزة، فكانت مداخل المدن ساحة لهذا التنافس الحاد الذي أعاد رسم أولويات الفلسطيني وربطه بما تم التخطيط له.
البعض هنا يربط امتلاء الحيز الإعلاني بعشوائية الإعلانات الاستهلاكية التي تعد الناس بالرخاء والرفاهية وتشعل طموحاتهم وشهواتهم بـ"التلوث البصري" الذي يمكن لأي متجول في المدن الفلسطينية أن يراه، لكن المهم هنا أن هذا التلوث كان شعر المدقق بحجم التناقض بين الواقع الذي يعيشه الفلسطيني حقيقة وبين الحياة الجديدة الذي تعد بها هذه الإعلانات.
فقط أريد لهذه الإعلانات أن تلعب دورًا أكبر في إعادة بناء الحالة الفلسطينية من حالة نضالية مقاومة إلى حالة استهلاكية رغباتية. فعملت هذه الإعلانات التي تبيع الانطباعات بفرض أولويات جديدة على الفلسطيني بما تفرضه من أجندة على عيون المارين عبر المركبات العمومية والخاصة صباح مساء. فقط فاض الحيز العام على مداخل المدن تحديدًا بإعلانات لا حصر لها عن السيارات الحديثة والهواتف الذكية وعروض شركات الاتصالات والبنوك، والأحلام الزوجية وشقق العمر، والضواحي... إلخ، وجميعها نقلت الفلسطيني إلى حالة استهلاكية نهمة جدًا، وحاولت جعله في ماكينة نظام رأسمالي لا يهمه إلا الربح قاطعًا على نفسه وعود كثيرة ولا حصر لها، لكنها في الحقيقة بعيدة كل البعد عما يريده هذا الفلسطيني.
الإعلانات تلك فعلت فعلها في سلوك الفلسطيني الشرائي وفي علاقته مع أولوياته وتحديات حياته، فبدا الاحتلال متراجعًا للوراء، وبدأت الأحلام وثورة الطموحات المادية على شكل شقة أو زوجة أو هاتف جديد أو قرض بنكي شغل المواطن الشاغل.
بسبب الإعلانات الطرقية، بدا الاحتلال متراجعًا للوراء، وبدت الأحلام الفلسطينية مجرد شقة أو هاتف جديد
الهبة الجماهيرية الحالية التي تركزت على مداخل المدن الرئيسية رام الله، ونابلس والخليل وجنين.. إلخ رافقتها عدسات مصورين صحفيين محترفين، أخذت ترصد الفعل النضالي الجديد لتدهش العالم بالمشاركين وروحهم النضالية المتجددة، غير أن صور بعض هؤلاء تمكنت من الخروج بما يستحق أن يتم التوقف عنده مطولًا لكونها قامت بوعي وإدراك وحس فني وصحفي بانقلاب على الحيز الإعلاني السابق. فقد قام هؤلاء المصورون بتوظيف جميع مكونات المشهد للخروج بصورة صحفية تحمل فكرة وموضوعًا جديدًا، فحضرت مقاطع من هذه الإعلانات كجزء من تكوين المشهد وقدمت رسالة جديدة، هي أكثر أصالة في فهم الحالة النضالية الحالية.
يمكن تأمل صورة "بدون نهاية" للمصور علاء بدارنة، واسم الصورة مأخوذ من الإعلان التجاري لمشروب غازي "فانتا" الذي يتسيد اللون البرتقالي خلفية الإعلان فيما الأدخنة المتصاعدة من الإطارات التي أحرقها الشباب تغطي كل شيء ولا تبقي إلا على كلمتين اثنتين هما "بدون نهاية"، هنا الإعلان منح المعنى للمتظاهرين، استعار المصور المحترف الفكرة التي كثفها الإعلان التجاري وانقلب عليها ليقدم رسالة مفادها أن الشباب الذي يتقدم الصفوف في هذه المواجهة سيستمر فيها بلا نهاية.
في صورة أخرى للمصور سامر نزال نجد أنه يستثمر إعلان سيارات حديثة للخروج بصورة صحفية مختلفة، حيث نرى أعلى الصورة كلمات: "تحية تقدير إلى عشاق القيادة" وفي جزء الصورة السفلي شباب فلسطيني يتقدم الصفوف ويلقى الحجارة.
هنا يحتفي المصور بنمط آخر من القيادة، قيادة مختلفة للميدان الذي أصبح مضرمًا بالنار والرصاص، وكذلك بعشق آخر ربما المشاركة الحثيثة في إعادة الاعتبار لأرض المواجهات التي قد يترتب عليها الإصابة أو الاعتقال أو الشهادة، وتبدو لنا هذه الصورة وكأنها تعيد بناء الأولويات فمن قيادة السيارات وبرامج القيادات الشابة وأعمال الريادة والتسويق والبزنس وقصص النجاح...الخ إلى القيادة الحقيقية المطلوبة من الشباب الفلسطيني وها هو يمارسها ميدانيًا.
يدين المصورون، عبر كاميراتهم، كل الخطابات التي أنتجت أحلامًا بعيدة عن التحرر الوطني والخلاص من الاحتلال
الصورة التي يبنيها المصور تقدم الكثير وتخالف رسالة الإعلان التجاري/ السلعي فالإعلان يرى أن الخيار الأفضل لفئة الشباب هو اقتناء هذا النوع من الهواتف الذكية لكن الصورة تقول أن الفعل الشبابي على مداخل المدن هو الفعل الأفضل، ويمكن أن نلحظ المفارقة بين الخيار الأول التسطيحي وهو اقتناء سلعة استهلاكية على شكل هاتف ذكي بمواصفات عالية، وبين الخيار الثاني وهو مواجهة الاحتلال، وهو الخيار الأكثر أهمية وأصالة بالنسبة للفلسطيني.
هذه الصور الذكية تفتح بابًا في الصورة الصحفية وتجعلها أكثر قدرة على حمل رسالة تفوق الرسالة التي يشكلها الشباب المنتفضون لوحدهم، وهم هنا يستخدمون الحيز الإعلاني ويرفضونه أو يجيرونه للمعاني الجديدة التي يصنعها الشباب على اختلاف فئاتهم.
في صورة رابعة للمصور شادي حاتم نقرأ في ثلثا الصورة العلوي مقطعًا كبيرًا من إعلان تجاري لمدينة ملاهي حيث نقرأ "متاهة الرعب الأولى في فلسطين" والصورة التي يحملها الإعلان عبارة عن فتاة مرعبة، فيما الثلث الأخير من الصورة يحمل المفاجأة حيث جندي إسرائيلي هارب من حجارة الشباب المنتفضين على أبواب مدينة نابلس.
الصور السابقة هي نماذج فقط من صور صحفية ظهرت مؤخرًا، الأحداث المفاجئة التي دفعت بالشباب للخروج وإعلان غضبهم، وكاميرات مصورين محترفين تدفعنا لتقديم قراءة جديدة، فمثل هذه الصورة التي لا توثق الحدث فقط بل تتجاوزه للسياق العام الذي يحيط به، لتحمل فكرًا يتم تضمينه للصورة الصحفية، وهذا هو جوهر التصوير.
هنا علينا التأكيد أن التطويع للمجتمع الفلسطيني كان شديد الضرواة ولا يمكن لأحد الاستهانة بما قامت به السياسات الاقتصادية التي عكستها شركات الإعلانات التي انتشرت بكثرة وأصبحت مصدرًا جيدا للكسب وجني المال، فعبر استغلال علوم معرفية وتقنيات وإيحاءات وطرق إغواء عملت على تشكيل العقل والإدراك لقطاعات عريضة بعيدًا عن الاحتلال ومتطلبات التخلص منه، لكن الاحتلال الذي يعلن عن نفسه في كل تفاصيل حياتنا يجعل من فعل الشباب الثائر عليه ومن مصورين محترفين قادرين على إعادة تشكيل الصورة عبر الانقلاب على الإعلانات الاستهلاكية لتقديم معاني جديدة حول الهبة الجماهيرية، ووسيلة لإدانة هذا الاشتغال على الحيز العام الإعلاني كوسيلة لإدانة الاحتلال ومن يبيعون وهم الخلاص منه.
وما تخلص إليه هذه الصور الصحفية يدفعنا إلى العودة إلى ما خلص إليه عمل فني حمل اسم "ذى زون"/ "المنطقة" للفنانين باسل عبّاس وروان أبو رحمة عام 2011 ومما جاء في تعليقهم على عملهم الفني المركب "في ما يبدو لنا إحدى أحلك اللحظات في التاريخ الفلسطيني المُعاش، بدأ يتشكل عالم من الأحلام في الضفة الغربية، حيث تظهر بشكل ما مجموعة من الرغبات المُسلَّعة والمتشبهة بالحياة الطبيعية، على قمة أنقاض الإخفاق والانهيار السياسييْن. هنا تظهر أنماط حياة ورغبات جديدة وأحاسيس متباينة للذات تصطدم بحقيقة الإنكار المتواصل للكوارث التي حلّت بالوضع الراهن في فلسطين".
وهذا الإنكار لا يدوم بل يصطدم بالاحتلال وكرامة الثائرين عليه ليتحول الفعل النضالي الماثل أمام أعيننا وبإمضاء مصورين إلى إدانة لكل الخطابات السياسية والاقتصادية التي أنتجت رغبات متمركزة على الاستهلاك وأحلام جماعية بعيدة عن التحرر الوطني والخلاص من الاحتلال.
اقرأ/ي أيضًا: