لا تحتفي لوحات هدى بعلبكي التي تُعرض في غاليري "Art on 56th" في بيروت، حتى نهاية حزيران/ يونيو الجاري، بالطبيعة بقدر ما تردّنا إليها، وإلى ما يرتبط بها وتحيل إليه وتوحي به، بطريقة نشعر بفعلها أننا أمام مشاهد مؤقتة، وأخرى زائلة، لا على سطح اللوحة فحسب، وإنما في حياتنا اليومية التي تتضاءل فيها المساحة التي تشغلها الطبيعة لكن ليس بوصفها مساحات خضراء فقط، وإنما جزءًا من فردوسٍ ما يُرى إليه اليوم، غالبًا، بوصفه فردوسًا مفقودًا.
تُعيدنا بهجة تفاصيل لوحات المعرض وما تنطوي عليه من سكينة وتبثّه من طمأنينة إلى الواقع الذي يقف على النقيض منها
قد لا يبدو ما سبق دقيقًا لناحية الطبيعة بمعانيها الشائعة، لكنه دقيقٌ حتمًا لجهة ما تنطوي عليه وتبّثه ويمنحها صفاتها الفردوسية. ولأن الأولى لا تزال حاضرة، بينما تضاءل حضور الأخيرة، تبدو لوحات الفنانة اللبنانية في معرضها الجديد، المعنون بـ "رحلة مواطن كوني"، طريقة في رثاء الطبيعة، بوصفها فردوسًا، أكثر منها محاولة للاحتفاء أو التغني بها.
هدى بعلبكي في رحلتها الكونية.. رسم غياب الطبيعة، لا حضورها
ربما لا يكون الرثاء هو غاية الرسامة. لكن لوحاتها، مع ذلك، تنتهي إلى هذه النتيجة. أو هذا هو، على الأقل، الانطباع الذي يتشكل لدينا عند رؤية لوحاتها. ومردّ هذا الانطباع هو مقارنة، لا إرادية، بين ما نراه على سطح اللوحة، وما هو قائمٌ في الواقع الذي يجعل، لشدة بؤسه، من الطبيعة وما تنطوي عليه من بهجة وسكينة وطمأنينة، أمورٌ ملفتة للانتباه إن لم نقل مُستغَربة.
مُستغرَبة لأنها لم تعد حاضرة إلا من خلال الغياب الذي يجعلها ملفتة للانتباه، أو ربما غير مألوفة. وهذا بالضبط ما توحي به لوحات بعلبكي التي تُعيدنا تفاصيلها المبهجة، وما تنطوي عليه من سكينة وتبثّه من طمأنينة، للمفارقة، إلى الواقع الذي يقف على النقيض منها تمامًا.
الإحالة إلى الواقع في هذا السياق، وهي إحالة تلقائية ليس بالضرورة أن تكون مقصودة، تبدو أقرب إلى اقتراح في قراءة اللوحة أساسه المقارنة بين طبيعة نراها على سطح اللوحة، بصفاتها الفردوسية الأصيلة، وأخرى واقعية قلما نلتفت إليها، وإلى حضورها، بعد نضوب سحرها وزوال ما يجعل منها فردوسًا، الأمر الذي يجعل من ثيمتي الغياب والحضور الأساس في فهم لوحة التشكيلية اللبنانية.
ترسم الفنانة من الطبيعة ما لم يعد حاضرًا منها إذًا. أو ترسم، ربما، غيابها نفسه. لهذا السبب، ولغيره أيضًا، تبدو لوحات معرضها الجديد موزعة على الحنين والرثاء معًا، لكن دون مغالاة. حنينٌ ورثاءٌ مضمرين يتقاسمان اللوحة دون أن يكونا هدفًا أو غاية بالضرورة، وإنما نتاج ظرف راهن يقيم روابط، واقعية أو متخيلة، بينه وبين اللوحة.
إنها، لذلك، أعمالٌ تنبّهنا إلى غياب مضمونها في حياتنا اليومية، ثم تدفعنا إلى التفكير في أثر هذا الغياب عليها أيضًا. وبوسعنا القول إنها تخاطب المتلقي، غالبًا، بلغة الرثاء. ما يعني أنه من الصعب القول بأن لوحات هدى بعلبكي تتحدى، بألوانها المبهجة والمشرقة، قتامة الواقع وبؤسه.